بعض الوقائع في شرق الفرات….حسين قاسم
لا يمكن في مطلق الأحوال القفز على الحقائق وتجاوز الوقائع، دون الاعتراف بها وتحليلها والغوص في تفاصيلها، لا مجال أن نستغرق في الهوامش والجوانب الثانوية، اللوحة ساطعة بما يكفي أن نقرّ بها وان نعترف بما يتعارض مع قناعاتنا ورغباتنا قبل الانغماس والضياع في ما يوافق أمزجتنا.
لا يمكن الاكتفاء بالحديث عن داعش وخطر التيارات الإسلامية المتطرفة للتغطية على جرائم نظام الأسد والسلوك الوحشي لجيشه، والدفع باتجاه خلق وعي كردي سوري يغطي على الحقبة السوداء ومسؤولية الطغمة الحاكمة عن هذه الحقبة، وفي المقلب الآخر لا يمكننا القول أن نظام الأسد في شقه المعادي للكرد استثناء في السياسة العنصرية العربية ضد الحق الكردي، أين الاستثناء في المشروع الوطني السوري منذ تشكيل الدولة السورية إلى هذه اللحظة؟ حتى الحديث عن الفترة الوردية بعد الاستقلال لا يخلو من رومانسية وصناعة مخيلة تحاول لجم الحلم الكردي الذي تبلور مرتكزاً على حقيقة لا شريك عربي يدعم حقه المشروع في تقرير مصيره وفقاً للعهود والمواثيق الدولية في سوريا، وهنا الحديث يستثني بعض النخب وبعض السياسيين الذين حملوا القضية الكردية كقضية رئيسية في البلاد.
وكذلك لا يكفي القول أن تركيا لاعب رئيسي في المنطقة وتركيا بنسختها الأردوغانية متطرفة في مواجهة الحق الكردي، ولكن متى لم تكن السياسة الرسمية التركية في مواجهة الحق الكردي حتى تكون الأردوغانية استثناء، هناك في تركيا وفي كل مكان يتواجد فيه الكرد، حتى في سياق الحديث عن تورغوت آوزال نجانب الصواب عند القول أن التسوية السلمية كانت قاب قوسين أو أدنى.
كل الأحاديث عن وجود إيراني في شرق الفرات على شاكلة الوجود التركي عار عن الصحة، وهذه الحقيقة لا تتعارض مع حقيقة الدعم الإيراني المطلق واللامحدود لنظام الأسد، لكن الحديث عن وجود إيراني بشكل يغير التركيبة الديمغرافية في بعض المناطق السورية هو نفخٌ في النار الطائفية ولا يمت إلى الوقائع بصلة.
دعت الإدارتان الأمريكيتان المتعاقبتان (أوباما وترامب) إلى رحيل الأسد كما دعمت القوات الامريكية قوات سوريا الديمقراطية في حربها ضد داعش وتبنتها على أنها ذراعها في سوريا ضد التيارات الإسلامية في بقعة جغرافية كبيرة من سوريا، لكن أمريكا لم تمانع يوماً في الحوار بين النظام وحزب الاتحاد الديمقراطي PYD (حزب السلطة في الإدارة الذاتية)، كما أنهما صرحتا (أن الولايات المتحدة تراعي مخاوف الامن القومي التركي) في اكثر من حديث لمسؤولين أمريكيين في الشأن السوري، وهذا يعني أنه لامجال للمقارنة في هذه اللحظة بين المصالح التي تربط أمريكا وتركيا وبين الدور الوظيفي التي قامت به قسد في حربها ضد داعش، ومن السذاجة القول أن أمريكا غافلة عن المساهمة التركية في دعم التيارات الإسلامية في سوريا.
من الإنصاف القول أنه لم تكن للحركة الكردية السورية جسم عسكري يستطيع حماية المدنيين ضد هجمات المجموعات المتطرفة، ولمشاركة الكرد في الحركات الكردستانية العسكرية في تركيا والعراق كان من الطبيعي أن تشارك تلك المجموعات في الدفاع عن مواطنيها، بناءً على ذلك ولكون كردستان العراق يتمتع بوضعية رسمية كانت الفرصة أمام حزب العمال الكردستاني كبيرة، هذا إضافة إلى الديناميكية العالية لكوادر الحزب، يبدو أن مشاركة كوادر الحزب المباشرة وإشرافهم في تدريب الكوادر السورية أمرٌ مفهوم، ولكن من غير المفهوم أن تهيمن تلك الكوادر وبسلوك صبياني ونزعة استعلائية على القرار الكردي السوري وان يساهموا في ضياع الرصيد المعنوي الكبير الذي صنعوه في الجانب العسكري.
يبقى السؤال الأخير في الخيارات التي كانت متاحة امام الكرد والذي حسم منذ آمد طويل في الانحياز المطلق للخيار الأمريكي مع الرهان على لعبة الوقت في التحالفات المؤقتة مع كل الفاعلين على الأرض بما فيه النظام وبعض فصائل المعارضة السورية.
ولكن ماذا لو خُيّرت أجسام المعارضة السورية إجمالاً والعسكرية منها على وجه الخصوص والتي لا تصنف في خانة التطرف الديني، “وهي قليلة جداً“، بين تحالفاتها مع إيران أو تركيا أو روسيا أو أمريكا، إذا افترضنا جدلاً أن هذا الخيارات متاحة، أيُّ الخيارات أقل كلفةً وأكثر جدوى؟
ماذا لوكان خيار التحالف مع روسيا وإيران متاحاً امام المعارضة السورية؟ ألم تكن الدولتان الآن ملاكان مدافعان عن حق الشعب السوري في العيش بحرية وكرامة؟
كان هذا السؤال مرهوناً ومعطوفاً على غياب الفاعلية الوطنية السورية في طريقة تفكير معظم المعارضين وانحيازهم لأجندات تعبر الأجندة السورية إلى الأجندة اليسارية والقومية العربية والإسلامية، مع التركيز على الخطر الكردي في شرق الفرات كنقطة محورية في بناء تصورها لتلك الخيارات، ومحاربة الآفاق التي يمكن ان تسفر عنها تحالفات “الصدف” إن جاز التعبير بين الكرد من جهة والأمريكان والروس والنظام من جهة أخرى، مرتكزاً على الوزن التركي ومخاوف آمنه القومي في مواجهة الكرد.