هيلاري وترامب لن يسيرا على خطى أوباما-راغدة درغام
من المبكر رسم ملامح السياسة الخارجية لأي من المرشحين المفترضين – حتى الآن – للرئاسة الأميركية، إنما من الممكن الإضاءة على عناوين عريضة، لا سيما أن مرشحة الحزب الديموقراطي المفترضة، هيلاري كلينتون، ومرشح الحزب الجمهوري المفترض، دونالد ترامب، لن يسيرا طبق الخطى التي رسمها لهما الرئيس الحالي الديموقراطي، باراك أوباما، بالذات في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً الخليج. انعزالية ترامب ستكون مختلفة عن انعزالية أوباما، لكن الرجلين يتفقان على ترك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مقعد القيادة في المنطقة. كلاهما لا يستسيغ الدول الخليجية العربية، إنما أوباما وقع في حب إيران بينما ترامب وزّع كراهيته على المسلمين كافة من السنّة والشيعة. وهو يهدد بإلغاء الاتفاقية النووية مع إيران. هيلاري كلينتون توحي بأنها تود العودة إلى حكمة العلاقات التقليدية مع الحلفاء التقليديين من دون أن تتملص من الاتفاقية النووية مع إيران. لكنها تدرك أن الثقة بها في حال اهتزاز. تحمّست لحكم «الإخوان المسلمين» في مصر. أسرعت إلى إسقاط معمر القذافي وإسقاط ليبيا في دوّامة الفوضى والعنف والتشرذم والانفتاح على الإرهاب. تنصّلت من سورية فيما كان بوسعها أن تصر على أوباما أن سياساته خاطئة. وهكذا فعلت في موضوع العراق عندما انسحب أوباما قبل الأوان وترك الساحة مفتوحة على الحرب المذهبية مكرّساً النفوذ الذي قدمه الرئيس السابق جورج دبليو بوش لإيران عبر حرب العراق. إنما هيلاري كلينتون، على رغم كل ذلك، ستكون أكثر عقلانية وأكثر حكمة من دونالد ترامب في صوغ علاقات مسؤولة وواقعية مع القيادات الخليجية وقد يكون أهم تحدٍّ لرئاسة هيلاري كلينتون هو حياكة صفحة جديدة في العلاقات العربية – الإيرانية إيماناً بأن الاستمرار في سياسة أوباما ووزير خارجيته جون كيري ونائبه جون بايدن إنما هو استثمار خطير في إنماء التطرف الإسلامي المذهبي الذي لن يبقى محصوراً في الرقعة العربية والإسلامية وإنما سيطاول أميركا بعدما تمكّن من دخول العواصم الأوروبية. وسائل محاربة «داعش» وأمثاله قد لا تكون ذاتها في عهد هيلاري كلينتون كما في عهد أوباما الذي تعمّد لعب الورقة المذهبية لسكب الزيت على نيران العداءات السنّية – الشيعية فأطلق يد «الحرس الثوري» الإيراني وقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني في سورية والعراق بحجة أنه شريك ضروري للقضاء على «داعش». هيلاري كلينتون قد تختار إخماد النيران المذهبية، إذا كان ذلك هو الخيار الاستراتيجي الأميركي للمؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة. وهوذا القرار الغامض الأهم في مسيرة الرئيس الأميركي الآتي والذي سيؤثر جذرياً في مستقبل المنطقة العربية وغيرها.
عمداً أو سهواً، شجّعت إدارة أوباما على تطوّر فائق الأهمية هو السماح لإيران أن تشكّل ميليشيات وتدرب ما يسمى «الحشود الشعبية»، إما للدفاع عن بقاء نظام بشار الأسد في السلطة أو لدعم حكومة حيدر العبادي وقبله نوري المالكي كرئيس لحكومة العراق، تحت ذريعة محاربة «داعش».
ما فعلته إدارة أوباما عملياً هو تمكين الميليشيات التي تديرها أو تدعمها طهران من إضعاف الجيوش التقليدية وتهميشها. هكذا ساهمت في إضعاف المؤسسات في العراق وسورية وزادت من ركاكتها في أكثر مراحل الدولة هشاشة. هكذا تلاقت أهداف «داعش» لتدمير الدولة العربية مع رغبات إيران بدعم من واشنطن.
هذه المعادلة خطيرة جداً لأنها تشرّع حلقة مفرغة من الانتقام بين التطرّف السنّي والتطرّف الشيعي – وكلاهما ليس صديقاً للولايات المتحدة ولا للقيم الغربية.
جورج دبليو بوش وباراك حسين أوباما التقيا في رغبتهما في حصر الحرب على الإرهاب في الدول العربية بعيداً من المدن الأميركية، ولعلهما نجحا عبر حرب بوش في العراق ولا حرب أوباما في سورية. لكن هذه وصفة موقتة ومخدّر له آثاره المدمرة، في نهاية المطاف، ليس فقط في العالم الإسلامي، وإنما أيضاً في عقر الدارين الأوروبية والأميركية.
دونالد ترامب، استناداً إلى شخصيته، لن يبالي على الأرجح ما لم يأتِ الخطر إلى عقر الدار الأميركية حصراً. فهو لن ينساق وراء التعاطف مع حلفاء حلف شمال الأطلسي (ناتو) ولن يرمش جفنه لو استمرت آلة القتل في كامل المنطقة العربية بغض النظر عمّن يَقتل أو يُقتل، ولو حشدت طهران الميليشيات كبديل عن الجيوش، ولو أصبح قاسم سليماني بطلاً لكامل الطائفة الشيعية وليس فقط بطلاً جماهيرياً في إيران.
ولكن، مرة أخرى، إن القرار الاستراتيجي لما هو في مصلحة الولايات المتحدة لن يكون في يد الرئيس الجديد في البيت الأبيض. فالأمن القومي له حسابات تتعدى شخص الرئيس ومقتضيات الأمن القومي الاستراتيجي ليتم وضعها وتحديدها لعقود وليس لمجرد 4 أو 8 سنوات. عليه، سيتصرف دونالد ترامب في البيت الأبيض كما تملي عليه المؤسسة الحاكمة – العسكرية والمدنية على السواء – «الاستابليشمانت». فالولايات المتحدة ليست الاتحاد الروسي حيث للرئيس فلاديمير بوتين صلاحيات تتعدى المؤسسات وهو الذي تنقّل من رئاسة الدولة إلى رئاسة الوزراء وأصبح رئيساً فوق العادة.
دونالد ترامب لن يتمكن من أن يصبح رئيساً فوق العادة مهما تعاظمت غطرسته وغروره ومهما تحنّك في فن التفاوض وتباهى بعقد الصفقات. بل إن بهلوانيته واعتباطيته وسطحية مواقفه وتعاليه على الدستور الأميركي وعلى الحزب الجمهوري وعنصريته بدأت تطاوله. واليوم، إن كبارَ الحزب الجمهوري غاضبون جداً وهم عازمون على تلقين دونالد ترامب درساً مهماً وهو: عليك أن تصحّح اعوجاجك وتتعلم لغة الاعتذار وتبلع حبوب التواضع، وإلاّ لن تنال دعمنا. بكلام آخر، إن رسالة التهديد التي يتلقاها ترامب اليوم هي: اهدأ. ولا تجبرنا على إيذائك كما أذيتنا. لا تدفعنا إلى الموافقة المبطّنة على هيلاري كلينتون الديموقراطية في الرئاسة. طفح الكيل، ولقد دمّرتنا بما هو كافٍ.
من الآن وحتى منتصف الشهر المقبل، قد ينقلب دونالد ترامب على نفسه ويمارس ضبط النفس ويلقي الخطابات المدروسة المقروءة بدلاً من الارتجال النرجسي الذي تميز به طوال الانتخابات التمهيدية – وقد يتواضع ويتعلّم الإصغاء. وقد يختار طاقماً ذكياً من المستشارين في شتى المجالات بما في ذلك السياسة الخارجية. قد يكف عن العنصرية الشاملة ضد المسلمين والمكسيكيين وغيرهم من ذوي البشرة غير البيضاء. وقد يفهم، أخيراً، كم هي معقّدة العلاقات الدولية، السياسية منها والاقتصادية.
في المقابل، قد يراهن على شعبيته مع الناخب الأميركي الذي دعمه كما هو ويقرر أن تهذيب شخصيته سيفقده تلك الشعبية والقاعدة الانتخابية. قد يزداد تمسكاً بفلاديمير بوتين شريكاً ويعلن صراحة أنه يوافقه الرأي بأن بشار الأسد باقٍ في السلطة تحت أي ظرف كان. كلاهما يكره الإسلام الراديكالي وهذا قاسم مشترك مهم. فلاديمير بوتين قرر أن يصوغ علاقة استراتيجية مع إيران كي يقمع السُنّة عبر الشيعة، وهو بذلك يلعب الورقة المذهبية مثل إدارة أوباما. الفارق أن أوباما دعم صعود «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في تونس ومصر واليمن وليبيا واعتقد أن تركيا نموذج للإسلام المعتدل. في المقابل، رأى فلاديمير بوتين خطراً وجودياً في صعود الإسلاميين إلى السلطة فتحدى أوباما في سورية. ثم، وبعد توافقهما في سورية، أصبحا شريكين في إعادة الاعتبار لإيران ومساعدتها في الهيمنة الإقليمية. دونالد ترامب يقرأ الكراهية الأميركية للراديكالية الإسلامية السنّية بسبب إرهاب 11-9، لكنه لا يبدو جاهزاً لتبني إيران شريكاً كما فعل بوتين وأوباما.
واضح أن هيلاري كلينتون أو دونالد ترامب – أو غيرهما في حال بروز مفاجآت أو إصدار مذكرات تهم رسمية – سيرث عن باراك أوباما علاقات متوترة مع دول خليجية، بسبب رميه جانباً العلاقات التحالفية التقليدية مع دول الخليج بتزامن مع إقباله على صنع التهادنية والتطبيع مع إيران. سيرث الرئيس الجديد انعزالية أوباما وسيرث معها انخراط أميركا عسكرياً عبر الطائرات بلا طيار. الحروب المستعرة في سورية واليمن والآتية إلى ليبيا والعراق ستكون ساحة لتفريخ المزيد من الراديكالية الإسلامية، السنّية منها والشيعية، ولن يكون تنظيم «داعش» وحده في ساحة الإرهاب. لن تكون مناطق الحروب البعيدة في عزلة لمكافحة الإرهاب بعيداً من المدن الأميركية والروسية والأوروبية. فإذا لم تقع عملية إرهابية كبرى في الولايات المتحدة، يستطيع باراك أوباما أن يقول أنه نجح في سياسة إبعاد الإرهاب عن أميركا كما فعل جورج دبليو بوش.
أما إذا وقع الإرهاب مجدداً في الأراضي الأميركية، فسيكون ذلك إجهاضاً للتركة التاريخية التي يريدها أوباما لنفسه وسيستفيد ترامب من المشاعر الهائجة وقد تدفع هيلاري كلينتون الثمن.
أما إذا سارت الأمور بصورة طبيعية، فالأرجح أن لا تنتخب أميركا دونالد ترامب رئيساً. مزاجيته مكلفة، في نهاية المطاف، وهو أثبت تكراراً أنه ضحية غطرسته العارمة. ثم إن ترامب صعّد كثيراً في وعوده الانتخابية، الساذج منها والخيالي، فزجّ نفسه في زاوية وقد لا يتمكن من التراجع عن تلك الوعود دفعة واحدة.
هيلاري كلينتون ليست محبوبة شعبياً وهناك أزمة ثقة بها. ثم هناك أخطاؤها على نسق حرب ليبيا واستخدام الرسائل الإلكترونية بوسائل شخصية حين كانت وزيرة خارجية. فإذا قام مكتب التحقيق الفيديرالي FBI بإصدار مذكرة ضدها لكسرها القانون، قد يؤدي ذلك إلى مفاجأة خسارتها الترشيح الديموقراطي. وهذا ما يراهن عليه أتباع بيرني ساندرز وهم يصرّون عليه للبقاء في مواجهتها حتى انعقاد مؤتمر الحزب الديموقراطي.
التحدي الآخر الذي يلازمها هو أن يقرر باراك أوباما أنه سينزل الساحة الانتخابية دعماً لها، وبذلك يؤذيها كثيراً. فهي تريد إبعاد الفكرة التي يسوّقها الجمهوريون بأن رئاستها ستكون عبارة عن ولاية ثالثة من إدارة أوباما.
لعل هيلاري كلينتون تشكر في صميمها ذلك الرجل الذي أتى من حيث لم يكن في الحسبان فدمّر الحزب الجمهوري ونصَّب نفسه منافساً بهلوانياً للرئاسة الأميركية قبالتها، وهي تبدو أكثر جدية.
ولعل دونالد ترامب الذي استهان به الجميع وصُدِموا صدمة تلو الأخرى وهو يصل إلى حصوله على الأصوات الانتخابية اللازمة لاعتباره المرشح الجمهوري المفترض، لعله يأتي بالصدمة الكبرى في 4 تشرين الثاني (نوفمبر). فليس من الحكمة استبعاده كلياً من الرئاسة الأميركية.
بوصلة اليوم تفيد بأن هيلاري كلينتون ستعود إلى البيت الأبيض عبر بوابة التاريخ أول امرأة تصل إلى منصب الرئاسة. إنها تعرف جيداً ذلك البيت الأبيض الذي استقرت فيه سيدة أولى لزوجها الرئيس بيل كلينتون لثماني سنوات. لكن إبرة البوصلة لم تستقر بعد والعالم أجمع ينتظر استقرارها.
صحيفة الحياة 10/6/2016