العجز السوري المتدحرج- عمر قدور
مرّ ما يقارب التسعة شهور على التدخُّل الروسي المباشر في سورية، وكان يُفترض منذ بدء العام أن تكون القوات الروسية أنجزت مهمتها في «الحرب على الإرهاب» وفق تصريحات القيادة الروسية، وفي القضاء على فصائل المعارضة وفق المخطط العملي الذي استهدفها أولاً. مع ذلك، لا يمكن إنكار نجاح التدخل الروسي في منح أفضلية لقوات بشار الأسد والميليشيات الإيرانية والشيعية الحليفة في عديد الجبهات، من دون ترجمة هذه الأفضلية على المستوى الميداني العام، أو على المستوى السياسي.
في الواقع، ينضم التدخل الروسي حتى الآن إلى سلسلة سابقة من العجز عن الحسم، ففي بداية الثورة كان واضحاً عجز النظام أمام طلائع «الجيش الحر» آنذاك، ما استدعى سريعاً الاستعانة بميليشيا «حزب الله»، وسرعان ما انكشف عجزها عن الحسم، الأمر الذي استدعى الاستعانة بميليشيات أخرى شيعية، عراقية وأفغانية. أخيراً، قبل التدخل الروسي وأثناءه عجّ الميدان السوري بقادة وفرق «الحرس الثوري»، وصولاً للزج بقوات نظامية إيرانية، وبات شبه أكيد أن قاسم سليماني نفسه طلب المعونة الروسية قبل قدومها.
الأكيد أيضاً أن قسماً كبيراً من «الإنجازات» التي حققها التدخل الروسي ما كان ممكناً تحقيقه لولا العون الأميركي الذي تجلى بوقف دعم فصائل المعارضة آنذاك، وبالضغط على حلفاء المعارضة من أجل الاقتناع بقدرة التدخُّل الروسي على تغيير معطيات أساسية صنعتها إيران. المقايضة مع بوتين- لافروف كانت تقضي بمنح مكاسب للنظام بقدر ما تتولى موسكو إبعاده عن طهران، وصولاً إلى المحافظة على جزء كبير من النـــظام، مع إقصـــاء رأسه في ختام العملية السياسية. وبدت الوصفة مجزية لموسكو، وتقدم حلولاً معقولة للجميع بما في ذلك معسكر الموالاة الذي قد يفضّل الحماية الروسية على نظيرتها الإيرانية ذات الطابع المذهبي الطاغي.
لم تسرِ الأمور كما تشتهي موسكو، فالطيران الروسي على رغم كثافة النيران التي استخدمها غير قادر على الحسم بقوات النظام وحدها، أي أنه لا يستطيع ميدانياً التخلي عن الميليشيات الشيعية، بما تحمله مساعدتها من تبعات على قرار موسكو السياسي. حتى مع مؤازرة الميليشيات الشيعية والقوات الإيرانية، يصعب الانتصار في المعارك ما لم تؤدِّ الإدارة الأميركية دورها في وقف الإمدادات عن فصائل المعارضة، أي أن فرص نجاح التدخل الروسي مرهونة بتعاون دولي وإقليمي لم يعد متوافراً كما كان في البداية، وبعدما تكشف العجز الروسي عن تحييد النفوذ الإيراني.
مع افتراض حسن نيات موسكو بدايةً، على رغم ضحالته، فهي الآن في موقع أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل التدخل المباشر، لأنها رمت أوراقها وانكشف عجزها عن أن تكون نوعاً من الحل المقبول. ومع كل ما يُشاع عن خبرة الديبلوماسية الروسية، لم تكتسب من النظام سوى الحد المسموح به إيرانياً، وهو الحد الذي لا يسمح لها بالتفاوض خارجياً إلا وفق الأجندة الإيرانية، ووفق المعركة الإيرانية في سورية التي لا يناسبها سوى الانتصار التام وبقاء النظام برموزه وأركانه، وهي معركة أقل ما يُقال فيها إنها غير قابلة للحسم على المدى المنظور، مع تورط روسي يصعب تقدير أبعاده.
لقد استمد التدخُّل الروسي زخماً كبيراً من التفاهم مع إدارة الرئيس باراك أوباما، وما أشيع عن شبه توافق إقليمي حوله، وبغير ذلك يتحول إلى طرف يتدبر ورطته بنفسه. وأهم ما في الورطة الروسية الحالية عدم القدرة على تظهير المكاسب العسكرية في مفاوضات جنيف المنهارة، فلا المعارضة انصاعت للضغط الميداني، ولا النظام وطهران اكتفيا بالمكاسب وسعيا إلى تسوية مقبولة دولياً. حتى إدارة أوباما، على رغم ممارستها ضغوطاً على المعارضة وحلفائها، لا تظهر حماسة لمساعدة موسكو بأي ثمن، وتعلم أن اقتراب موعد رحيلها يضغط على الأخيرة، مثلما يضغط عليها بقاء أمد تدخلها مفتوحاً وغير مضمون النتائج.
بخلاف التقديرات المتفائلة التي رافقت بداية التدخل الروسي، من المرجح أنه أضاف عاملاً جديداً من عوامل الاستعصاء السوري، وتالياً من عوامل العجز الدولي حياله. فالانسحاب الروسي غير مطروح الآن، أو ربما في أي وقت، إلا تحت ضغط الخسائر، وما لم تحصل موسكو على تفويض دولي وإقليمي جديد لن يكون بإمكانها حسم المعركة. في المقابل، ستبذل أقصى جهدها لمنع الحسم لغير مصلحة تحالفها مع طهران، بخاصة أن التوقُّعات لا ترجّح مجيء إدارة أميركية تكرر السيناريو الأفغاني، مع عدم استبعاد ترك مهمة استنزاف موسكو للاعبين إقليميين متحفزين لهذا الدور.
المشكلة أن سوء التقديرات الأميركية، والإقليمية جزئياً، فاقم تعقيدات الوضع السوري، لأن تشجيع موسكو على لعب دور أكبر من نفوذها الفعلي في سورية لم يأتِ بالثمار المرجوة، إلا إذا كانت الغاية الأساسية توريطها وهذا مستبعد. من المستبعد أيضاً قبول الدور الروسي كمكمل للدور الإيراني، ما يضرب أساس التسوية التي طال الحديث عنها، والتي لن تكون بأي حال تسوية ما لم توافق عليها قوى أساسية من المعارضة مع قوى أساسية داعمة لها.
مطلع آب (أغسطس)، الذي رُوّج له كبداية للمرحلة الانتقالية، يقترب ليصبح وراء اللاعبين جميعاً، وهكذا ستكون حال التسوية المطروحة برمتها، ما لم تتخذ موسكو قرارات دراماتيكية حكيمة لا تبدو من طبيعة صانعي القرار فيها. بل تتصرف قيادة بوتين حتى الآن كما لو أنها تقتفي أثر بشار وطهران في شراء الوقت تقسيطاً، على أمل حصول تطورات دراماتيكية في معسكر الخصوم، وهذا يجعل فاعليتها السياسية محدودة جداً، فوق العجز النابع من ضيق هامش المناورة مع الحليف الإيراني.
المنطق التقليدي للنزاعات يقضي بترجمة المكاسب العسكرية إلى واقع سياسي. ذلك ما لم يحصل في سورية منذ بدا النظام آيلاً للسقوط وصولاً إلى التقاطه أنفاسه، وذلك ما لا تريد موسكو قراءته جيداً. المراهنة على ابتزاز إدارة أوباما وحاجتها إلى إنجاز وداعي يضيق هامشها الزمني، إذ مع مطلع آب تكون كلينتون بدأت حملتها الرئاسية الرسمية، ويتجه اهتمام الحزب الديموقراطي لدعم فرصها في الوصول إلى البيت الأبيض، أكثر من مجاملة سياسات رئيس سابق إزاء عدو قديم.
الحياة 19-6-20156