سورية صندوق رسائل دولية!- سميرة المسالمة
تلتزم الإدارة الأميركية موقف المراقب من الحرب الدائرة في حلب بين فصائل عدة، بينها جبهة «فتح الشام» («النصرة سابقاً»)، وجيش النظام وداعموه مثل ميلشيا «حزب الله» وغيرها، فيما تعلن هذه الإدارة في شكل واضح أنها شريكة وراعية لحرب أخرى تدور في نفس الحيّز الجغرافي تقريباً لكنها بين من تسميه YPG أي «قوات الحماية الشعبية» وتنظيم «الدولة الإسلامية (داعش).
على ذلك، ربما أن ما سرّب عن اجتماع مايكل راتني المبعوث الأميركي إلى سورية مع قيادة «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» (في 10 الشهر الجاري في إسطنبول)، وأثار تكهنات عدة، لم يأت بجديد عما هو معروف من سياسة أميركية تدير ظهرها للحرب الدائرة في سورية منذ قرابة الخمس سنوات، على رغم أنها واحدة من مجموعة دول ما يسمى «أصدقاء الشعب السوري»، أي الدول الداعمة للمعارضة وللثورة ضد نظام الأسد. وقد يمكن القول عن الاجتماع المذكور أن راتني كان صريحاً بما فيه الكفاية وهو يرد على تساؤلات أعضاء من «الائتلاف» عن دور أميركي ملتبس، وعن شبهة تراجع واضح في إدارة ملف الصراع السوري لمصلحة روسيا، وهو الأمر الذي لم يعد خافياً على أحد من السوريين.
في الوقت ذاته بددت صراحة المبعوث الأميركي الغموض الذي يلتبس موقف إدارة أوباما المتعلق بدعمها العسكري المطلق لـ «قوات الحماية الشعبية» أو «قوات سورية الديموقراطية» في حربها ضد «داعش»، علماً أن هذه القوات هي بمثابة الجناح العسكري لـ «حزب الاتحاد الوطني الديموقراطي» (الكردي).
هكذا اتضح أن ثمة رسائل أميركية متعددة مما يجري في حلب، ليس أولها انتزاع الأضواء عما يحدث هناك، سواء ما يتعلق بمعارك تخوضها فصائل عدة ضد قوات النظام، وليس آخرها تجاهل ما يمكن أن تقرأه تركيا من دعم أميركي لقوات تصنفها هي بالإرهابية، نظراً لاعتبارها بمثابة امتداد لـ «حزب العمال الكردستاني» (pkk)، مروراً بما يمكن تسميته الابتسامة الأميركية الصفراء إزاء التقاربات الروسية – التركية – الإيرانية، مع العلم أن معظم المحلّلين يحيلون هذا التقارب الثلاثي إلى الموقف المشترك من المشروع الكردي، بعد المبرّر الاقتصادي الذي يأتي في مرتبة متقدمة جداً، بالنظر إلى متطلبات الاعتمادية المتبادلة بين هذه الدول في كثير من المجالات.
يستنتج من ذلك أن الإدارة الأميركية التي تقف إلى جانب المعارضة السورية («الائتلاف الوطني» و»الهيئة العليا للتفاوض») تقف أيضاً وفي الوقت نفسه، وربما بمستوى أعلى، مع ما تعتبره معظم أوساط المعارضة السورية طرفاً أقرب إلى النظام منه إلى الثورة السورية (أي «قوات سورية الديموقراطية»)، مع فارق شاسع يتعلق بطبيعة الدعم الأميركي لكلا الطرفين الذي يتخذ شكله الإعلامي فقط مع المعارضة بينما يتجسد بتدفق أسلحة فعالة، وبرامج تدريب ومستشارين على أرض الواقع مع ما سماه مبعوثها YPG. بل إن الولايات المتحدة تقدم أيضاً الدعم «الإنساني» للمناطق التي ترزح تحت سيطرة هذه القوات لرفع نسبة تأييد وجودها وتعزيز شرعيتها بين مواطني المحافظات المستهدفة بالتحرير من «داعش».
في هذا السياق لا بد من التأكيد أن أهمية تحرير هذه المدن من سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي يتطلب أيضاً مجموعة من العناصر التي تؤمن حماية لسكان هذه المدن، وضمان تعددية مرجعياتهم القومية والدينية، وعدم تحويل هذه الانتصارات المدعومة أميركياً إلى بيئة صالحة لإطلاق أحلام تقسيمية لسورية. وكان تأكيد الإدارة الأميركية للمعارضة بخصوص أن هذا الدعم لا يشمل الدعم السياسي التي تطلبه الـ PYD منهم والمتعلق بالاعتراف بالشكل الذي أقرته للدولة السورية (الفيديرالية)، لأن هذا ينبغي أن يحدده الشعب السوري بالتوافق في ما بينه وليس بإعلان صريح ومريح من طرف واحد.
من جهة أخرى، وعلى الأرض، تحاول الإدارة الأميركية فرض مفهومها عن القوات المعتدلة، والمؤيدة للحل السياسي، وفصلها عن الجماعات الإرهابية، التي تحصرها في «داعش» و»النصرة»، بحيث تشتغل على إقناع روسيا بهذا المفهوم، بغرض عدم استهدافها بالقصف الروسي، كما أنها تحاول إقناع المعارضة بمثل هذا التوجه. ويبدو من كل هذه المطالبات أن الولايات المتحدة تهادن روسيا، مع علمنا أن ذلك ليس من موقف الضعيف، وليس من موقف المتردد ربما، وإنما موقف اللامبالي إزاء ما يجري في سورية، أو من موقف ترك الأطراف تتصارع، حتى تستنزف، وهذا هو الأرجح. أي أن الموقف الأميركي يتحرك مع موسكو من منطلق سياسي براغماتي قوامه تركها لترى حدود قدراتها، وربما لاستدراجها لمزيد من التورط، لإضعاف موقفها، واستنزافها، وكشفها إزاء مجتمعات المنطقة، وتالياً دفعها للتقارب مع الموقف الأميركي، وقوامه التركيز على ما تسميه مواجهة الإرهاب ولا سيما «داعش» و»النصرة»، بالتزامن مع إقامة حكومة انتقالية تضم المعارضة وأطرافاً من النظام، من دون حسم مسبق لمصير الأسد على رغم تصريح راتني أن واشنطن متمسكة بسورية جديدة من دون الأسد.
في الغضون فإن الولايات المتحدة تشتغل على الأرض، كما ذكرنا آنفاً، مع «قوات سورية الديموقراطية»، كميليشيا صاعدة، أو كقوة يمكن أن تنمو أكثر، وتشتغل مستقبلاً وفق ديناميات جديدة، وحدها أو مع أطراف أخرى (ممن تعتبره معارضة معتدلة)، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية فإن الولايات المتحدة ما زالت تمانع قيام أي تعاون سياسي بينها وبين روسيا، باعتبار أن لهذا التعاون أثمانه السياسية التي لا ترضي الإدارة الأميركية، فضلاً عن أنها تضر بصدقية علاقتها مع المعارضة، وبين هذا وذاك فهي تشتغل على إقناع الروس بتخفيف الطلعات الجوية، وضمنه الكفّ عن استهداف المدنيين، ولا تخفي الولايات المتحدة قناعتها بأن الروس يفعلون كل ما يحلو لهم بحجة استهداف «جبهة النصرة»، وأن هذا يستلزم من المعارضة التعامل مع هذا الأمر، وعدم تجاهله، وبالطبع فإن الأميركيين هنا يقصدون أنه ليس كافياً تغيير «جبهة النصرة» اسمها أو ادعاء انفكاكها عن «القاعدة».
بالمحصلة، فإن أهم رسالة أميركية قوامها أن الولايات المتحدة لم تغير موقفها، وأنها لا تسمح بإنهاء المعارضة، كما لا توفر لها الدعم الكامل لانتصارها، ولا تسمح بتبييض صفحة «النصرة» من حلب، وأن الحرب لم تنته بعد، وأن الحل لن يكون بحسب ما يريد هذا الطرف أو ذاك من السوريين. وبالنتيجة لا يبدو أن الإدارة الأميركية غيرت موقفها بقدر ما أن بعض المعارضة كان يبني على تصريحات أميركية لا رصيد عملياً لها على الساحة السورية.
من جهة ثانية ثمة رسالة روسية مقابلة للرسالة الأميركية تمثلت في التقارب الروسي التركي، وهي الورقة الجديدة التي ستضعها روسيا في ملفها أثناء الجلوس إلى طاولة التفاوض الروسية – الأميركية عندما ستمضي قدماً في الملف السياسي بعد الانتهاء من الاتفاق العسكري لمحاربة الإرهاب، فعلى رغم التعتيم الإعلامي على مجريات اجتماعات «القيصر والسلطان» في موسكو إلا أن مجرد الابتعاد عن الخوض في تفاصيل خلافية أمام الإعلام هو اتفاق ضمني على ضرورة التوصل إلى حلول وسطى، وهو ما يعنيه اليوم استمرار معركة حلب لإعطاء دافع جديد لذهاب المعارضة إلى مفاوضات سياسية بشبه انتصار، ورضوخ النظام لإملاءات روسية لا يمكنه مخالفتها بحكم وصاية روسيا الجوية الكاملة والدائمة في سورية من خلال أبدية وجود قاعدة حميميم.
إيران أيضاً لم يطل صمتها على توزع الأدوار على طاولة الغنائم فهرعت إلى تركيا تفرد أوراقها وتقاطع مصالحها مع المصالح التركية والروسية في آن معاً، بخاصة في ما يتعلق بالملف الكردي على الحدود، حتى لو كلفها ذلك تنازلات عما سمته خطاً أحمر (مصير بشار الأسد) في مرحلة لاحقة لما بعد التحضيرية أو ما تسميه المعارضة مرحلة ما قبل الانتقالية. في مقابل ذلك تنازلات بدأت عبر تصريحات متفرقة عن قبول تركي للأسد في تلك المرحلة لكن شرط أن يؤدي ذلك إلى رحيله آخراً.
لا شك أن الساحة السورية صندوق رسائل دولية لكن ما لا يمكن تجاهله أيضاً هو السؤال المحوري: من يملك مفاتيح هذا الصندوق؟ والأهم ما حدود دور السوريين فيه؟
* كاتبة وإعلامية سورية
الحياة 19-8-2016