السوريون الأكراد ممارسة الحقوق أم البحث عن الوجود – يوسف سلامة
من آخر ما قرأت حول “القضية” الكردية في سورية، مقال للكاتب السياسي المرموق (عمر رسول) بعنوان “الوجود الكردي في سورية بين حقائق الواقع وزيف الأيديولوجيا – أسئلة من نار وأجوبة من رماد”. والموضوع الذي دار حوله هذا المقال، هو محاولة الكاتب إثبات أن الوجود الكردي في سورية وجود حقيقي، وأن إنكار هذا الوجود موقف أيديولوجي زائف. ومن ناحيتي لا أعرف شخصًا سوريًا واحدًا قد نفى هذا الوجود على أي نحو من الأنحاء، ولكم تمنيت أن ينصبّ هذا المقال حول الدفاع عن حقوق الأكراد في سورية، وليس على وجودهم؛ ذلك، لأن التمتع بالحقوق الكاملة مكافئ للوجود، في حين أن الوجود قد يكون معترفًا به، من غير أن يكون مقرونًا بالحقوق، وإني شخصيًا لأشد حماسة للدفاع عن حقوق أي جماعة سورية، مهما صغر حجمها أو كبر، وعلى سبيل المثال، هناك جماعة سورية كردية صغيرة العدد تنتمي للطائفة “الإزيدية” لم تتمتع بحقوقها الكاملة، مع أن ثمة اعترافًا بوجودها، فقد يكون الاعتراف بالوجود حقيقة بديهية، مع أن التساؤل عن التمتع بالحقوق إن كانت مهدورة أم لا، هو ما له الأهمية الأولى.
يذهب الكاتب بعيدًا في تتبع الوقائع التاريخية، ويبذل جهدًا توثيقيًا ضخمًا، يقوم من خلاله، بتتبع تاريخي واسع، وتعقب جغرافي شامل لكل حركة أو سكنة تقول المصادر التاريخية التي عاد إليها: إن الأكراد قد قاموا فيها.
غير أن الكاتب لا يُبدي أي ارتياب حيال ما جاء في هذه الكتب، حول الإمبراطوريات التي تشكّلت وبادت، أو حول الأصول الاثنية للأقوام المختلفة، وعما إذا كان كل ما قيل حول الأكراد فيها ينطبق على الأكراد السوريين أو غير السوريين.
وباختصار إنه يستنبط (الوجود من التاريخ)، بدلًا من أن يبحث عن التاريخ الحي والمعاصر الذي هو الوسيلة الحقيقية لإنتاج الوجود الحي والفاعل والمؤثر؛ إنه يستخدم حجة الحق التاريخي التي يلجأ إليها الفلسطينيون والعرب في مناقشة الوجود الإسرائيلي في فلسطين، وذلك في مقابل (الحق الإلهي)، الذي يستند إليه الإسرائيليون؛ لاستنباط شرعية ما لوجودهم في فلسطين. والواقع أن الحق التاريخي لا يقل تهافتًا عن الحق الإلهي، مثلما أن الحق الإلهي -هو الآخر- لا يقل تهافتًا عن الحق التاريخي.
ولذا، فخير لكل القوميات في سورية –وأولها العرب- أن تتجنب الحديث عن (الحق التاريخي)، لأن الأرض في هذا العالم ليست ملكًا لأحد بحكم التاريخ، أو بسند منه. الأرض مُلك لمن يحيا عليها بقوة الجغرافيا والحقائق السياسية والآثار الثقافية التي تنطبع فوق الأرض وتنغرس فيها، فتلونها بألوان ثقافة من يحيون فوقها. فإذا بأسماء القرى والمدن والصروح المقدسة، وطرز الحياة وأزياء النساء والرجال، فضلًا عن الأعياد والاحتفالات، كلها تشهد بأن هذه الآثار بجملتها تدل على وجود قوم ما، هذه ثقافتهم، وهذا وجودهم الذي تشهد عليه ثقافة لم تزل حية وماثلة في الوجود.
الأكراد في سورية، ليسوا في حاجة للتاريخ؛ ليستمدوا شرعية وجودهم منه، وذلك لسبب بسيط جدًا، وهو أنهم موجودون فعلًا، فكما أن المعدوم لا يناقش وجوده لأنه معدوم، كذلك هو الأمر أيضًا بالنسبة للموجود، لا يناقش وجوده لأنه موجود، وأغلب الظن أن ما خلق التساؤل عن وجود الأكراد في سورية راجع إلى جملة الإجراءات الظالمة التي اتخذها النظام السوري ضد الأكراد في المناطق السورية، التي يتقاسم السوريون، على اختلاف ثقافاتهم، العيش فيها جنبًا إلى جنب.
ونظنّ أن كثيرًا من هذه الإجراءات الظالمة، قد قصد بها النظام –أصلًا- بث روح التنافس والفرقة والعداء بين السوريين، الذين يعيشون في المحافظات الكائنة في الشمال الشرقي من سورية. وعلى أي حال شكلت هذه الإجراءات -في مجموعها- إجراءات ظالمة ومرفوضة، ولابد من تصحيح المظالم التي سببتها.
لو دقق المرء، في مضمون الإجراءات المشار إليها أعلاه، لما صعب عليه أن يستنبط أنها كانت موجهة ومصممة؛ لاختزال “الوجود الكردي” في سورية، إلى أدنى حد ممكن لهذا الوجود أولًا، وللحرمان من الحقوق ثانيًا. فكما أن سحب الجنسية من أعداد كبيرة من الأكراد، قد كان من شأنه أن يضعف هذا الوجود، ويختزله بدرجة أو بأخرى، كذلك هو الحال بالنسبة للحرمان من الحقوق، الذي سيفضي إلى إضعاف هذا الوجود، عندما تضطر هذه الإجراءات أعدادًا أخرى من الأكراد إلى الهجرة من وطنهم، بحثًا عن سبل الرزق في أماكن أخرى من العالم.
وبطبيعة الحال، كانت أكثرية السوريين الذين يمارسون السياسة، ضمن تلك الأوضاع الصعبة، غير راضية عما يلحق بالأكراد من ظلم، ولكن ظلم النظام وتعسفه لم يطل الأكراد وحدهم، كما يعلم الجميع. بل إن هذا الظلم قد امتد حتى شمل الكثرة الكاثرة من السوريين؛ لأسباب متعددة، ليس هذا هو المكان الملائم لذكرها وتصنيفها.
وليسمح لي القارئ أن أؤكد أن الحقوق –في معرض مناقشتنا للوجود الكردي وحقوق الأكراد في سورية– الممارسة ممارسة فعلية، تنطوي على الوجود، في حين أن الوجود قد يكون قائمًا ومعترفًا به من غير أن يكون مقترنًا بممارسة الحقوق؛ ولذا فالنص الدستوري على (حقوق المواطنة المتساوية) هو الأمر الذي يجب أن يولى كل الاهتمام، نظرًا لكون ممارسة الحقوق أمر قابل للقياس المدني والقانوني، في حين أن النص الدستوري على الوجود، ليس من شأنه أن يضمن الممارسة الفعلية للحقوق، على نحو يتخطى المستوى الصوري لهذا الوجود، ومن غير أن يكون قادرًا على ضمان المساواة الفعلية في الحقوق والواجبات.
وأخيرًا أقول: لقد كان (عمر رسول) محقًا عندما قرن في العنوان الفرعي في دراسته بين النار وبين أسئلة الوجود، ذلك لأن جميع القوميات يصبح من حقها أن تطرح أسئلة مماثلة من نار، وعندئذ ليس ثمة من يستطيع أن يمنع الصراعات القومية التي قد تفضي إلى حريق شامل. أما إذا كانت سورية هي (الكلي الحضاري) الذي يوحد الجميع، ويجمعهم –مع الاعتراف بالحقوق الثقافية المتساوية دون تمييز– فإن الأسئلة -في هذه الحالة- لن تعود من نار، مثلما أن الأجوبة عليها لن تكون من رماد أيضًا.
جيرون-5 ايلول-2016