في الثورة “المضادة”- جمال الشوفي
تقتضي المسؤولية العامة والوطنية نقد أيديولوجيات اللون الواحد، كالإخوان والبعث، هذا بالمبدأ، ولكن بذات الوقت ألا نستسهل الحدث السوري ونمنّي النفس بحلّه بجملة وصفية مريحة دون أن نشارك في تجليس دفته ومساره والمشاركة الفعلية في استرداد ما تم ضياعه بحكم صراع دموي طال لعشر سنوات خلت، شارك الجميع فيه، أيديولوجيا وعسكرياً، وتركه يهوم على غاربه.
اليوم، يتم تداول مصطلح سياسي عام في أروقة بعض المنصّات والتحليلات السورية، مفاده “الثورة المضادة”، والمقصود به، حسبها، أنّها انقلاب الإسلاميين وعلى رأسهم جماعة الإخوان، ومن بعد الجهات المتطرّفة الإسلامية على الانتفاضة الشعبية السلمية ذات الطابع المدني الذي اجتاح عموم سورية بدءاً من 15/3/2011، والملفت في هذا بداية أنّه المصطلح الأكثر تداولاً بين من كانوا يؤيدون أيّة بندقية لإسقاط النظام.
تبدو المبررات الأولى لاستخدام هذا المصطلح سياسياً مقنعة للكثيرين من أصحاب النزعة التوصيفية المريحة وغير المدققة، خاصة وأنّ الخذلان العام، كما القتل والتهجير والتشرّد، طال جميع السوريين بكل تصنيفاتهم بلا استثناء، لدرجة تفريغ مقتضيات الحدث السوري من محتواه الأول في استعادة بناء الدولة على أسس دستورية تسودها قيم الحق والقانون والحريات والعدالة، ليجد الجميع طفواً سياسياً عنيفاً من الجماعات المسلحة ذات الصبغة الدينية الإسلامية على الحدث السوري. حيث توصف الثورة المضادة بهيمنة جماعة الإخوان على القرار السياسي للمعارضة السورية، بما فيها الفصائل الإسلامية، والتباين الحاد بين مشروع هذه الجماعات ومشروع سورية، المدني والسلمي، ثورياً.
بالمبدأ لا يصح القول بأنّ مسلمة ما معروفة يمكن أن نستنتج منها صورياً نتيجة محكمة، ما لم ترتبط هذه المسلمة بحدثها الواقعي واستنتاج حلول لها. فالقول بالثورة المضادة، وحسب مصدر تعريفها في الثورة الفرنسية أصل المصطلح، يعني أن تتم الثورة برنامجها بتغيير النظام السياسي القائم، ومن ثم تأتي قوة منظمة تستبيح قوام الثورة الشعبية هذه وتنقلب عليها بغية إعادة البلاد إلى الوضع الذي كانت عليه، وهذا يصح تماماً على مجيء نابليون بونابرت وتحالفه مع قادة الجيش وطبقة النبلاء وإعادة أحكام السيطرة على الحكم كإمبراطور على فرنسا.
كما ويصحّ تماماً على مجريات الحدث المصري في يوليو 2013 من قبل العسكر المصري، واستعادة زمام السلطة على حساب قوى المجتمع المصري المدنية والسياسية، وعلى حساب الانتخابات الديموقراطية الأولى في تاريخ مصر والتي وإن كان قد فاز بها إخوان مصر، لكنها كانت انتخابات حرة وديموقراطية أتت بعد مرحلة انتقالية طويلة، جهز خلالها لدستور وحياة سياسية جديدة اُستفتى شعبياً، أنهت النظام السابق. بينما أتت حكومة السيسي تماماً للإجهاز على كل هذا، وكل ما فعلته الحركة الشعبية لثورة 25 يناير 2011 إعادة مصر لمربع الدولة الأمنية العسكرية بحجة إزاحة الإخوان المسلمين من السلطة، ما أوقع كل قوى المجتمع المدني والسياسي المصرية فريسة العسكر وحكمهم الأمني مرة أخرى، وهنا يكفي المقارنة بين عدد الاعتقالات الموثقة بمنظمات أممية بفترة حكم السيسي والفترة التي سبقته.
وبالعودة للمصادرة أو المسلمة التي نفترض صحتها، بأنّ حكم وحيد اللون كإخوان سوريا غير مقبول سياسياً، لكن ليس بالضرورة أن تكون النتيجة المستخلصة منه صحيحة أيضاً وفق المنطق الصوري التوصيفي بهذا السياق، وهذا ما يجب نقده وتصحيحه اليوم وغداً وبالأمس. فكيف وإن عدنا للمسألة السورية والتي تتحدّد فيها معالم مختلفة لا يمكن بناء ذات المنطق على الأقل فيها. فحيث لم تنجز الثورة الشعبية المدنية سلمية الطابع في سنتيها الأوليتين تغيير النظام السياسي، ولم تدخل البلاد مرحلة انتقال سياسي أبداً، كما أفضت المسألة السورية عن تدخلات إقليمية متعددة الطابع كان أهمها وأكثرها وضوحاً التدخلات ذات السمة الدينية الشيعية مقابل السنية ظاهرياً، بينما هي في أتون صراع دامٍ على السلطة في سورية إقليمياً، كحلقة من حلقات الصراع على السلطة الذي لم يحسم لليوم بعد.
وحيث لا يمكن اجتزاء المسألة السورية في هذا السياق لاستسهال التوصيف وإراحة النفس وإلقاء كامل المسؤولية على طرف وحيد، فقد كان العنف ونمو الجماعات والفصائل الإسلاميّة مرحلة مفروضة يصح القول فيها على أنّها ممر إجباري فرض على الناس البسطاء بالدخول بأتون صراع لا يريدونه أصلاً، خاصة وأنّ كل معترك السياسة السورية معارضة كانت أو سلطوية تمارس لعبة البزار السياسي على أحقيّة حُكم لم تتأسس بعد شروطه الموضوعية والواقعية، سواء بحكم الثورة السلمية والمدنية التي لم تستطع تغيير النظام أساساً، ولا بحكم سيطرة النظام المهتزّة أركانه تلك الفترة.
الفارق المهم بين الثورة المضادة والصراع على السلطة هو تحديد مواضع ومفاصل المرحلة وإعادة قراءة الوقائع، كوقائع لا كافتراضات فوقية واستنتاج الممكن اليوم:
1-باعتراف معظم قيادة المعارضة السياسية السورية لم تقم الثورة بحكم قيادتها للحدث الثوري، بل بتجاوبها مع الحدث الشعبي والعمل على ملاقاته سياسياً.
2-لا يمكن وصف الصراع الحاصل بثورة مضادة، وبالأساس نفترض أن أصل حدثه بالشعبي، والقائمين على تنامي صراعه المسلّح من أصل الحاضنة الشعبية ذاتها ذات العمق الإسلامي أصلاً بكل ما تعرّضوا له من صنوف قتل وتهجير واعتقال.
3-لا يمكن تحويل نكوص المسألة السورية في تعقد ممراتها وانتقالاتها، لمجرد ثورة مضادة، متناسيين التدخلات الإقليمية لإيران وحزب الله والميليشيات العراقية، بدءاً من أواخر 2012، ومن بعد التدخل الروسي بالـ2015، ورد المسألة لثورة مضادة كحالة عقابية للشعب السوري تأتيه ممن يفترض أنّهم شركاء في همّ التغيير الوطني، متناسين كل تعقيدات ومعطيات الواقع السياسي السوري، إقليمياً ودولياً.
4-ثمة دراسات بحثية علمية تناولت تاريخ الثورات في العالم، أبرزها دراسة، أريكا شينويث وديفيد روبسون، والتي ترجمها المعهد المصري للدراسات، محددة القاعدة الذهبية لنجاح الحركات الشعبية سلمياً، إذا ما حققت نسبة المشاركة الشعبية فيها نسبة 3.5% من مجموع السكان، فهل ينطبق المعيار سورياً؟ فقد بلغت نسبة المشاركة السورية في الحدث السلمي المدني طوال ما يزيد عن عام ونيّف، ما يزيد عن 20% من المشاركة الشعبية ولم تنجح الثورة. وأضافت أنّ الثورات السلمية تنجح بنسبة 53% بينما العسكرية تنجح بنسبة 26%، طبعاً ولا ننسى أنّ شويغو، وزير الدفاع الروسي، كان قد صرّح إبّان تدخل روسيا في سوريا عام 2015، أنّ نسبة 89% من الأرض السورية خارج سيطرة النظام (يمكن مراجعة دراسة “الثورة والصراع على السلطة”، 3/2020، مجلة قلمون تفصيلاً).
من الضرورة نقد هيمنة جماعة الإخوان على القرار السياسي السوري، كما والحركات الإسلامية العسكرية التي تباينت مشاريعها في السياق السوري، لكن تثبيتاً وتصويباً لإعادة قراءة المسألة السورية بعيداً عن الاستسهال التوصيفي وإعفاء النفس من المسؤولية وإلقائها على طرف آخر وحيد، لم تكن ثورة مضادة بقدر أنّها استمرار للصراع على السلطة عنيف ودامٍ، بدأت محلياً بين سلطة وشعب وتمدّدت بين فرقاء العمل السياسي، أيديولوجياً وسياسياً، بداية بين مجلس وطني وهيئة تنسيق ومن بعد سيل من المنصّات هنا وهناك، قبل أن تتمدّد إقليمياً ودولياً تهدّد السلم العالمي برمته.
د. جمال الشوفي – ليفانت
١-١٢-٢٠٢٠
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع