بين ربيع الشعوب الأوروبية ١٨٤٨، والعربية ٢٠١١: عن مصائر الثورة السورية

ليس احتفالاً وحسب بمرور عشر سنوات على حدثٍ تاريخي عظيم في حياتنا، ولا حزناً وحسب على مصائر ذلك الحدث ومصائر السوريين جميعاً، نكتب اليوم! هذه الذكرى لن تصل إلى معناها ما لم نأخذها بالعلوم الكبيرة: كالفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ، وربّما يأتي بعض تلك العبرة على جناح المقارنات المختلفة.

فقد ثارت مثل نقاشاتنا الحالية هذه قديماً، بمناسبة مرور عشر سنواتٍ على ثورات ١٨٤٨ في أوروبا، واستخلص الباحثون هنالك وفي تلك الأيام استنتاجات متباينة، كما نفعل نحن السوريين مع المهتمين أيضاً… فتّش الأوروبيون في واقعهم خلال ذلك العقد من التاريخ، وفي آفاقه المحتملة.

من الطبيعي أن تُذكّر انتفاضات الربيع العربي بتلك الثورات الأوروبية، التي أُطلق عليها أيضاً اسم “ربيع الشعوب” أو “ربيع الأمم”.. مع أن الفارق بهذا المقدار من الزمن يصيب بالإحباط-وربّما الذهول- من حجم التخلّف الذي تخلّفناه عن العصر ومظاهر تطوره. ورغم ذلك، ربّما تكون إطلالة هناك وآنذاك عوناً لنا وتسهيلاً لتمرير ما لا يمرّ عادة بيسرٍ معنا هاهنا، وحالياً.

من أهمّ ما عالجه الباحثون في أوروبا يومها كان تفصيل وتجريد عوامل فشل ثورات ١٨٤٨، وقد اجتمعوا مع الزمان على إجمال ذلك في عدد منها:

– الافتقاد إلى الوحدة في تلك الثورات كلّها تقريباً. لم يتفق الاشتراكيون والجمهوريون في مهدها فرنسا… كان الاشتراكيون يحملون حماسة محدثي النعمة الذين اكتشفوا المبادئ والأفكار الاشتراكية لتوّهم مع ظهور الطبقة العاملة وإقلاع الثورة الصناعية في أيامها الأولى، وأرادوا تأسيس دولة اشتراكية على الفور ومسلوقةً بسرعة وعلى نارٍ حامية. في حين لم يقتنع الجمهوريون بذلك، وارتكز برنامجهم على تأسيس دولة ديموقراطية قائمة على الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، مع ترك النواحي الاجتماعية الاقتصادية لمراحل لاحقة، حتى تأخذ حظّها من التفاعل مع تحوّلات المجتمع والاقتصاد وتكريس مفهوم حديث للدولة… كانت نتيجة ذلك الصراع ذبح حوالي عشرة آلاف عامل اشتراكي آنذاك، وفشل الثورة.

في إيطاليا، كان هنالك من يريد جمهورية بقيادة مازيني، ومن يريد مملكة دستورية بقيادة ملك بيدمونت وسردينيا، أو من يريد فيدرالية موناركية على رأسها بابا الفاتيكان أيضاً. وانقسمت النمسا بما ورثته من الأمبراطوية الرومانية المقدسة، مع ميول قومية مختلفة في المجر وبوهيميا.. وهكذا في كلّ مكان.

– متانة وحدة الخصوم في وجه تلك الثورات كلّها تقريباً كذلك. فقد أظهر الحكام الرجعيون التزاماً بوحدة صفوفهم غير مسبوق، مدفوعين في الغالب باتفاقهم منذ التقائهم في فيينا بقيادة مترنيخ لتأسيس علاقات دولية جديدة في عام ١٩١٤، (بعدما عانوه من آلام الهزائم في غزوات نابوليون أوائل ذلك القرن، التي كانت بذور الثورة وأفكارها تتحرك في ركابها)… تحرّكت الجيوش الفرنسية -نفسها- لنجدة البابا في إيطاليا؛ والروسية لنجدة أمبراطور النمسا ومساعدته على قمع المجريين، ومثل ذلك في أماكن أخرى.

– انعدام الثقة بين “المكونات” في أكثر من مكان: بين تشيك وألمان بوهيميا مثلاً، وبين المجريين والصرب والرومان أيضاً، وغيرهم. وكان لتلك الظواهر أن تصيب مشاريع التغيير الكبيرة وتتعارض معها أينما ظهرت، وتسهم في فشلها.

– غياب القيادة والتنظيم والبرنامج الواضح، على الرغم من ظواهر عظيمة من المشاركة الشاملة في الانتفاض، مع روح جاهزة للتضحية والإقدام لم يكن لها مثيل في التاريخ. كلّ ذلك لم يكن ليثمر وينتج ما لم تكن هنالك قيادة على مستوى تلك الثورة، تلهم الثوار- السكان بوجودها بينهم، وتساعد على صياغة طموحاتهم في مشروع واضح لا لبس فيه، وتقوم بتنظيم طلائعهم السياسية والاجتماعية والعسكرية، كلٍّ في حقله ومكانه ومهمته. كان الثوار شراذم و”ميليشيات” فوضوية أمام جيوش منظمة وأسلحة أشدّ فتكاّ. بحيث لا يكون مصير الإقدام إلّا الموت المشرّف والهزيمة المحتومة، أو تحوّل تلك الشراذم إلى عصابات معزولة بعد أن كان خلفها مجتمعات كاملة داعمة.

– انعدام توازن وشمول الثورة، ما بين ريف ومدينة، وبين عمال وفلاحين أو طبقة وسطى، أو بين الجماعات الدينية المتنوعة.. وما في حكم ذلك. وقد ابتدأت انتفاضات عام ١٨٤٨ تلك في المدن والمناطق الحضرية، ولم تستطع إدماج الأرياف فيها على ما ينبغي ويلزم. ساعد ذلك على تحسين قدرة الخصوم على فرض الحصار والملاحقة، ومنع الثوار من ظهر وظهير ضروري كان يمكن للريف أن يؤمنه لهم.

هذا عموماً، وباختصار، ما أمكن ملاحظة تكراره بين أسباب فشل تلك الثورات لدى الباحثين.. لتلك الأسباب ذاتها رجعٌ وصدى واضحان وقويّان لدينا، مع أن الزمان مختلف والمكان، والعديد من الخصائص الجغرافية والتاريخية، والثقافية والإيديولوجية، وفي كلّ شيء؛ وليس ذلك علينا بغريب.. في الربيع العربي عموماً، أو- على الأقل- في سوريا.

لقد افتقدنا الوحدة في صفوفنا بقوة، رغم مظاهر الأمور في مجلسنا الوطني ثم ائتلافنا. وكان هذان أساساً قد قاما على اتفاق مباشر أو غير مباشر على إقصاء الآخرين، الذين لم يكن صحيحاً استبعادهم. في حقل المعارضة الديموقراطية التقليدية تمّ استبعاد القوى التي تجمّعت قبل وبعد ذلك في المنبر الديموقراطي وهيئة التنسيق الوطنية، وهؤلاء ليسوا قلة في سجلّات المعارضة الرسمية. تمّ أيضاً استثناء كتلة المثقفين الديموقراطيين التي كانت قد تجمعت سابقاً- كمثال- في إطار لجان إحياء المجتمع المدني؛ وحدث ذلك تحت شعارات الجذرية ومحاربة الوسطية والتساهل أمام النظام وسحقه حتى جذوره. وإضافة إلى ذلك، كانت قد فشلت محاولات تجميع وتوحيد قوى شباب الثورة التي ضمتها “لجان التنسيق المحلية” و”اتحاد تنسيقيات الثورة”، القوتين الأكبر في البدايات في الحجم والفعل على الأرض، لأسباب تتعلّق غالباً بالإيغو الجديد لدى عناصر كانت قد تربّت لدى بعض المعارضة الرسمية أو القديمة.

كان جوهر الفرقة عموماً يتعلّق بالاختلاف حول وجوب التركيز على “إسقاط النظام” أم على طبيعة “النظام القادم الجديد”، حين يأتي. وكان من الطبيعي أن يستهلك الأول الثاني بجاذبيته وراهنيته وإروائه للغليل!

أما اجتماع الخصوم ووحدتهم، فقد كان لهما شكل جديد تجلّى في مواقف تستبطن العداء الشديد للعملية الثورية الجارية في سوريا، وتشتغل في الوقت ذاته على استتباعها وتوريطها في الاتجاهات المسلحة والمتطرفة من جهة، أو السياسية المائعة المتخاذلة من جهة أخرى… وربما لم نعد بحاجة إلى توضيح الأمثلة على ذلك، بعد أن انفضحت الأمور وانكشفت… منذ البداية- على سبيل المثال- عملت قوى خارجية شتّى؛ تعارضت بعد ذلك فيما بينها أيضاً؛ على عزل القوى العسكرية عن تلك السياسية في مسار الثورة بشكل حاسم.

تراجع حجم الثقة بين “المكونات” أيضاً إلى أدنى مما كان عليه من قبل، ولم تدم فورة لقاء العرب والكرد بقيادة شباب الطرفين إلّا قليلاً، ريثما استطاعت القوى التقليدية لملمة صفوفها واستجماع قدراتها لممارسة أساليبها التقليدية. وكان ذلك يخفي نفوراً مخفياً وأصيلاً من الثورة ذاتها أحياناً، أو طموحات متنامية إلى الاحتواء أو الاستثناء في أحيان أخرى، أو انسجاماً وتوفيقاً مع أطرافٍ أخرى في حالة ثالثة. وحتى حين “لجأت” قوى المجلس الوطني الكردي إلى الائتلاف مثلاً وحققت اتفاقيتها معه، أخفى ذلك احتماءً من الخصم الداخلي (حزب الاتحاد الديموقراطي) الذي كان ظهوره الأكبر وهيمنته اللاحقة يلوحان في الأفق.. في حين لم يقم الائتلاف بتلك الخطوة إلّا- مكرهاً لا بطل- وتحت ضغط قوى عشائرية محلية ذات مصلحة، صدف أن كانت قوية في قيادة الائتلاف بدعم إقليمي وازن… جوهر هذه النقطة دائماً هو “غياب الثقة بين المكونات”، كما كان الأمر في أوروبا القديمة تلك.

لم يكن انعدام التوازن والشمول بعيداً عن أجوائنا كذلك. فقد ابتدأت الثورة السورية بتركيزٍ أكبر في المدن، في حمص ودرعا ودمشق وحماة واللاذقية وغيرها.. ثم استبسل النظام في محاولته منع استعادة التجربة المصرية والتونسية وميادينهما، وابتدأت نيران أسلحته بالتوجه مباشرة ضدّ ذلك التمدّد، كما ظهر واضحاً في ساحة العباسيين في دمشق ثم بشكل مأساوي في ساحة الساعة في حمص… ثم ظهر بشكل دفع إلى حسم تردد النظام بعد مظاهرات حماة ودير الزور الهائلة الحجم، المنذرة بالتغيير.

كان رد فعل الثوار والمعارضين هو اللجوء إلى الأبعد عن المدن والتعمق في الريف وحتى العشائر، ومن ثم التنظير لظاهرة الموقف الرمادي بين سكان المدن، في كبرى الحواضر، خصوصاً في حلب ودمشق… وما زالت هذه الظاهرة تفعل فعلها، وتتمظهر في اعتبار سورية قد تكثّفت في إدلب وريف حلب مثلاً، تحت شعار أنها أرض “محررة”. في حين لا تعالج سياسياً أوضاع أهالي المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام كلياً أو جزئياً، بل يتعمّق الانعزال عنها عملياً… ويجري مثل ذلك فيما يخص مناطق هيمنة مجلس سوريا الديموقراطية، التي تعتبر- عملياً وليس نظرياً- مسؤولية كردية محضة، يُحتفى بمعارضيها العرب والسريان والكرد ويُدفعون أحياناً إلى الأحضان أو المواقف العدمية، حتى تتكرّس وتتلاشى فاعليتهم الحقيقية.

غابت القيادة الفاعلة الشاملة أيضاً، وتفرّقت بين الداعمين أحياناً، وبين بقايا المعارضات التقليدية، أو استرخت في مهاجرها وملاجئها محبطة مستسلمة. وهي تعاني حالاتِ استرهان متنوعة، تركية وإماراتية وقطرية وسعودية ومصرية وروسية… من دون حصر ولا استثناء. يعاني بعضها أيضاً من مركبات نقص وحاجة إلى الوجود بأي شكل، فيلجأ إلى استسهال الميول الشعبوية الرائجة.. وذلك كلّ بعد فشل ذريع في ممارسة دور قائد، يوم كان لذلك مردود ونتيجة. ولم يكن ذلك ممكناً في ظلّ العقلية التي سادت منذ اليوم الأول للثورة، والتي تخضع لعقل ينطلق من الروح الانتقامية، أو التطرّف الإيديولوجي المحض، أو الاسترخاء الخائف المعتاد على المرونة التي لا تتوقف عند حدود.

لقد قام المجلس الوطني السوري في الجوهر من أجل تسهيل التدخل الخارجي والتحضير له؛ وقام الائتلاف الوطني بديلاً له عند ثبوت الحاجة إلى حل سياسي وتسوية؛ ولم تستطع قيادتا المجلس والائتلاف أن تحقق شيئاً لا لشعبهما وثورته، ولا حتى للهدف الذي أضمرتاه لتأسيس الكيانين المعارضين.

وصلت الحال إلى ما وصلت إليه الآن من تراجع مريع، ولا يمكن البدء- أي بدء- بالخروج منه إلّا بالاعتراف بالهزيمة والفشل أو الانكفاء… أو ما شاءت اللغة الماكرة. عندئذٍ وحسب، يمكن الاستثمار من جديد في التغيير الهائل الذي أحدثته الثورة في أهلها.

موفق نيربية، كاتب سوري

مجلة أوراق -١٤ آذار/مارس ٢٠٢١

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة