خواطر متأخرة حول الحزب السوري القومي الاجتماعي!…موفق نيربية

مقالات 0 admin

للحزب السوري القومي الاجتماعي طعم خاص في تاريخ المشرق العربي، ولطالما جرى تجاهل ذلك في سوريا خصوصاً، حتى عاد الموضوع لتذكيرنا بنفسه في سوريا مؤخراً.
وكما فعل رامي مخلوف، امبراطور الفساد السوري المغضوب عليه الآن لخلافات تتعلق بالحصص والتوزيع غالباً، حين جمع بين ادعاءات الطهرانية بالعمل الخيري والإنساني ورعاية الجزء “الشامي” من الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي يتزعمه الأمين “التاريخي” عصام المحايري، والاستحواذ على الاقتصاد الوطني بشركاته الخمسين من جهة، وجمعية البستان الخيرية وشركة راماك الإنسانية من جهة أخرى، إضافةً إلى تنظيم ميليشيا ضاربة تخدم النظام بسفك دماء السوريين. يفعل أيضاً الحزب السوري القومي الاجتماعي بتفرعاته الثلاثة، من خلال طهرانيته ومبادئه وإيمانه، بدعمه أشرس نظام عرفته المنطقة والعالم في العصر الحديث، بسلاح “شباب الزوبعة”.
ولكلّ فرع جانبه الذي يتبرأ فيه من الفرعين الآخرين، ولكنها تجتمع كلها على ضفة المستنقع أو في أعماقه. وفي المثالين، يشكّل الجمع بين”الطهرانية” والشراسة المفتوحة في الدفاع عن”المبدأ” واحداً من مضامين الفاشية وظواهرها. خلف الجانب الإيجابي من المشاعر نحوهم عدة عوامل، منها “المناقبية” كما قام أنطون سعادة بنحتها ككلمة للمرة الأولى؛ ومنها أيضاً ثقافتهم ومؤونتهم من التاريخ والجغرافيا، بمتعتهما أيضاً حين يتوازيان مع الأساطير أو الروح “التموزية” الجميلة. عبّر عن تلك الثقافة شعراء كبار مثل سعيد عقل ويوسف الخال وخليل حاوي وأدونيس والماغوط وغيرهم كثير، خصوصاً بين من كانوا في مجلة “شعر” وحولها، إضافة إلى كتّاب نهلوا من الحزب أساساً مثل هشام شرابي وكمال أبو ديب، أو كانوا سابقاً فيه مثل غسان تويني وفايز الصايغ.
غير ذلك، من المنطقي تقدير موقف “الزعيم” حول الدوائر العربية التي تضم الأمم الأربع، في سوريا – المشرق والخليج ووادي النيل والمغرب، وهو أمر تزايد قبوله مع ارتداد الموجة القومية العربية بشدة في العقود الأخيرة.
إلا أن ما كان مصدر توتر في المضمون الفكري والحقوقي والسياسي، هو ما شاب تلك الفترة الديمقراطية السورية من الخمسينيات، التي يعتزّ بها أهلها كثيراً؛ حين اغتيل عدنان المالكي، ولوحق بعض القوميين السوريين عن حق وقانونياً. إلّا أن تلك الحملة تحولت في الواقع إلى”صيد للساحرات”، وقُمع الحزب وأعضاؤه عموماً، وسجنوا أو شُرّدوا في الأرض. وكانت تلك لطخة على بياض تلك المرحلة وحرياتها، لا بدّ من التوقف عندها ومراجعة منابعها ومعانيها، حين يكون ذلك متاحاً.
جاء في مقدمة دستور الحزب الذي وضعه سعادة بنفسه في عام 1934: ” تأسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي بموجب تعاقد بين الشارع صاحب الدعوة إلى القومية السورية الاجتماعية وبين المقبلين على الدعوة على أن يكون واضع أسس النهضة السورية القومية الاجتماعية زعيم الحزب مدى حياته وعلى أن يكون معتنقو دعوته ومبادئه أعضاء في الحزب يدافعون عن قضيّته ويؤيّدون الزعيم تأييدًا مطلقًا في كلّ تشريعاته وإدارته الدستورية.” وجاء كذلك في المادة الرابعة من ذلك الدستور أن” زعيم الحزب هو قائد قواته الأعلى ومصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية”. فهو الزعيم والشارع وصاحب الدعوة ومصدر السلطات كلها.
وقد تجلّت تلك القدرة الهائلة في عامي 1947 و1948، حين كان قد انقطع في مهجره عن الحزب في البلاد لتسع سنوات، عاد إلى التواصل معه في عاميها الأخيرين بالمراسلة مع من انتدبه الحزب في بيروت لهذه المهمة: الشاب الموهوب غسان تويني. وبعد عودته من غربته، استطاع أن يطرد من قيادة الحزب رئيسه في غيابه نعمة ثابت وقياديين آخرين معه مثل مأمون إياس وكريم قزعول، وأن يلجم تماماً محاولات مثقفة لتحرير الفكر والفنون من قيودهما القسرية أو الشمولية عن طريق فايز الصايغ- عميد الثقافة- ويوسف الخال وغسان تويني نفسه، الذين كان مصيرهم نبذ الحزب لهم وابتعادهم عنه إلى جريدة النهار.
هنالك روحانية خاصة وراسخة لدى الزعيم ومؤمنيه، خصوصاً القدماء منهم قبل تفاقم” دنيوية” الأخيرين. إنه يهجر المسيحية والمحمدية- كما يسميها- إلى الإسلام، لكي لا يقف في وجه تديّن أصحابه. وهو يضع العلمانية في رأس مبادئ الحزب الثابتة، ويترفّع عن رجال الدين بل يستعديهم هنا وهناك؛ ولكنه” صاحب الدعوة”، على تسمية صاحب الدعوة العباسية ذاتها مثلاً، أو على موازاة مع عالم الأنبياء. هو دين- علماني- قومي كما يبدو، أكثر من أي مجموعة حزبية أخرى، يحيي تموز وأدونيس في العصر الحديث.

بعد تردد الكثير من شبابه ومحاولتهم جرّ الحزب إلى جانب الناس آنذاك، نجح التقليديون فيه، مع إغراءات الأسد ومخلوف، ومع تزايد اتجاهات العسكرة والأسلمة في الحراك الثوري، وتحوّلت فئات الحزب الثلاث في”الشام” جزءاً ملحقاً بالنظام

وهنالك” عسكرية” خاصة أيضاً منذ التأسيس، وضعت الزعيم قائداً أعلى للقوات كما ورد أعلاه في دستور الحزب، ويعتني بالانضباط شبه العسكري، وبعلامات تشبه تلك العسكرية، بالتحية واللباس والشعار- الزوبعة-، وبالتدريب حيث يكون ممكناً، وبالتنظيم في صفوف الجيش دائماً ومنذ البداية. يشبه في ذلك الإخوان المسلمين، الذين أعلن حسن البنا- صاحب دعوتهم- عنها قبل بضع سنواتٍ في مصر، وكان سابقاً له على طريقها رشيد رضا في لبنان. وكان أيضاً في ذلك، مع تميّزٍ خاص، شبيهاً بقوى منظمة أخرى ابتدأت في الظهور آنذاك، وتبلورت في أحزاب كالبعث والقوميين العرب لاحقاً. وكلّها انبهرت بالصعود القومي المنظم في أوروبا، في إيطاليا وفرنسا. في الأيام التي تبلور فيها دستور الحزب السوري على يد سعادة، بتلك السلطات المفتوحة للقائد، حصل هتلر على” التفويض” الشهير بالسلطة المطلقة، وابتدأت عاصفته التي اجتاحت العالم. وقد اعتنى سعادة حين قرر العودة في الثلاثينيات إلى المهجر، أن تكون المحطتان الأهم في طريقه في روما وبرلين. وليست هذه إشارة إلى أنه فاشي أو نازي، وقد أعلن مراراً نفيه لذلك واستنكار الاتهام به، فقد كان يعتبر دعوته السورية مستقلة بذاتها، لا تقل تفرّداً وعظمة عن تلك الموجودة في أوروبا، ولها وجهها ومنابعها التاريخية الخاصة، ومشروعها الحديث الخاص أيضاً، من دون التوقف عند مناحي الشبه والتماثل، أو التوازي.
كان من الطبيعي كذلك أن يتوسع بين” الأقليات” أكثر من الأغلبية، من دون أن يكون ذلك ثابتاً. فكانت”قلاعه” الشامية مثلاً في وادي النصارى- مرمريتا والحواش- وفي جبال العلويين في بعمرة وبستان الباشا، قرية آل مخلوف التي تحوّل اسمها بعد أن زارها سعادة في أواخر الأربعينيات إلى”بستان الزعيم”.
وحين عاد سعادة من هجرته الأخيرة في عام 1947 واستقبل استقبالاً مشهودا في مطار بيروت، كان أحد انتقاداته لرفاقه يتعلق بعدم استثمارهم لهذا الحشد بالرجوع من المطار لإسقاط النظام، أو للثورة القومية. تلك” الثورة” كانت الانقلاب الموجود في البرنامج دائماً، ينتظر نضوج عوامل نجاحه، التي سنحت عدة مراتٍ ، وفشلت بالعدد نفسه. وقد دفع سعادة بذاته حياته ثمناً لمحاولة الانقلاب الفاشلة الأولى في عام 1949، وانتهت بإعدامه، في مؤامرة دنيئة ومحاكمة صورية.
كذلك، ليست حادثة اغتيال عدنان المالكي التي أشير إليها أعلاه إلا في هذا السياق المتوتر بين أطراف من الحالمين بالانقلاب أو الذين يحسبون أن السلطة في يدهم. وكان ردّ فعل الحزب ميكانيكياً على ما حدث آنذاك. لم يستطع استيعاب الموجة القومية العربية الجارفة في الخمسينيات ووقف مباشرة في وجهها، بحيث فقد تعاطف الكثيرين مع محنته، وأدى الأمر إلى انزواء الحزب بعيداً عن الأنظار نسبياً، لكنه حاول الاستفادة من خصوصية لبنان مع تلك الموجة، للقيام بمحاولة انقلاب فاشلة أيضاً هناك في عام 1961، الأمر الذي زاد من أزمته وتعميقها.
جاءت فرصة الانتعاش الحديثة مع لجوء الحركة الفلسطينية إلى لبنان خصوصاً؛ وقضيتها هوى الحزب القومي الخاص؛ فاندفع إلى الكفاح المسلح، وتماهى مع العمليات الانتحارية أو الاستشهادية من دون تردد، الأمر الذي ينسجم مع عقليته وعقائديته، فاستعاد حضوره هناك، وخاض السياسة عن طريق البرلمان، ليخسر شيئاً من مصداقيته بسبب تحالفاته الشامية ولا يربح من رأسماله العلماني ما يكفي. في حين رضي بالبقاء في ظلال البعث والأسد الأب، حياً بحدود لا تزيد ولا تلفت الأنظار كثيراً. إلا أنه انتعش أكثر مع مجيء بشار، ومع بروز دور آل مخلوف في السلطة والاقتصاد، حتى جاءت ثورة الشعب السوري الديمقراطية في عام 2011، ودخل في دوامة حسابات خاطئة من جديد.
فبعد تردد الكثير من شبابه ومحاولتهم جرّ الحزب إلى جانب الناس آنذاك، نجح التقليديون فيه، مع إغراءات الأسد ومخلوف، ومع تزايد اتجاهات العسكرة والأسلمة في الحراك الثوري، وتحوّلت فئات الحزب الثلاث في”الشام” جزءاً ملحقاً بالنظام، تربح بأرباحه، وتخسر بخساراته..
ولا يربح الباقون على العهد فيه شيئاً إلا في مجال الحكايات والحنين.. وربما مكارم الأخلاق!

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة