طائر ميمون يلوح فوق لبنان – موفق نيربية

يومَ الانتخابات، عزّز الجيش اللبناني – مشكوراً- إجراءاته الأمنية على أراضي الدولة كافة؛ كما أصدرت وزارة الداخلية – مشكورة أيضاً- قراراً يمنع تجوّل الدراجات النارية خلال ساعات الانتخاب. ومعروف استخدام “الشبيحة” في كلّ مكان لتلك الدراجات في نشاطاتها؛ طبعاً مع الاعتراف بدور الدرّاجين الآخرين المسالم أيضا. لم تمنع تلك الإجراءات إحراق نصب ” قبضة الثورة” في قلب بيروت من قبل أولئك الشبيحة أنفسهم، بعد الإحساس بخيبة الأمل من النتائج الأولية للانتخابات! ما لفت الانتباه حتى الحَوَل، منع تجوّل السوريين أيضاً، على الأقل في بلديتين ورد ذكرهما، في النبطية وعرسال. ولا بدّ من التنويه بموقف “المركز اللبناني لحقوق الإنسان”، الذي أدان تلك القرارات، واعتبرها عنصرية وتمييزية، إلخ.
هنالك نتيجتان أساسيتان لتلك النتائج: توجيه ضربة موجعة لحزب الله وخسارته أغلبيته الفظّة؛ وفوز مجموعة من ممثلّي شباب 17 تشرين، يوم ثورة اللبنانيين على كلّ الطبقة السياسية وأولّها حزب الله والتيّار العوني، ولكلٍّ من هاتين النتيجتين نتائجها الارتدادية المتنوّعة.
في الواقع المباشر لم يخسر حزب الله، بضمانه لمجمل تمثيل الطائفة الشيعية على الأقل؛ بنجاح 28 نائباً مع حركة أمل التي لم تُبدِ حراكاً متميّزاً منذ زمن طويل، واستقرت على ذلك العقد الرابح؛ واستمراره – من ثمّ – بحيازة القدرة على التهديد بالصيغة الميثاقية، التي تُلزِم منذ اتّفاق الطائف بثلاثية الطوائف (مسيحية ـ سنية – شيعية) في كلّ ما له علاقة بالحكم، إضافة بالطبع إلى حيازته السلاح، القادر على تهديد وجود الدولة ذاتها، أو على الانقضاض عليها في أيّ وقت. لكنّه خسر من خلال خسارة الكتلة الرئيسة المتحالفة معه في السابق، كتلة التيار الوطني ورمزيها ميشيل عون رئيس الجمهورية وجبران باسيل رئيس الحزب الطامح لوراثة عون في الرئاسة. خسرت تلك الكتلة ترتيبها الأول في تمثيل المسيحيين لصالح القوات اللبنانية، المعارضة بدأب وإلحاح لحزب الله وتغوّله على الدولة، وللأسد الحاكم في الجوار السوري حتى الآن، ولإيران ومرشدها وحرسها الثوري وفيلق قدسها. خسر حزب الله أيضاً من خلال خسارة بعض “الرموز” المرتبطة به وبالنظام السوري أيضاً. ليس سهلاً عليه وعلى الطبقة السياسية التي تجاوزت مدة صلاحيّتها أن يخسر أشخاص مثل طلال أرسلان وإيلي الفرزلي ووئام وهاب وفيصل كرامي، وليسامحونا بالترتيب العشوائي هنا. ولعلّ غياب الحزب القومي الاجتماعي – أسعد حردان خصوصاً- وحزب البعث يشكّل فسحة مباركة للبنانيين بعد طول عناء، تريحهم من عيون النظام السوري المباشرة. خسر حزب الله – والنظام السوري- أخيراً من خلال فوز “بعض” أشدّ خصومه راديكالية بدفع من زخم ثَوَران 17 تشرين. وكان هذا الفوز تعويضاً بسيطاً، ولكنه بالغ الأهمية عن كلّ ما ألمّ بالربيع العربي من هزائم وخسائر، بل إنه يليق بلبنان بالذات أن يعود إلى هذا المركز المعنويّ الذي يستحقّه تاريخياً وفكرياً في مجال الثقافة والفكر والفنون، وفي حقل الحريّات كلّها في الوقت ذاته. وإذ فاز هؤلاء، الذين يعرفهم الشباب اللبناني وينادونهم بأسمائهم الأولى كما قال أحدهم: حليمة ونجاة وياسين ومارك وبولا وإبراهيم وملحم ووضاح وفراس والياس..وغيرهم.

رغم ذلك، لا بدّ من مواجهة الحقائق كلّا أيضاً، التي جاء بعضها في نتيجة الانتخابات نفسها. وتلك التي جاء بها نظام تفسّخ بذاته، مع ورود ظواهر قاتلة كبرى أكبرها حزب الله وإرث النظام السوري، بالسلاح القادر على التهديد والهيمنة وإزاحة ما بقي من الدولة اللبنانية جانباً، وبحالة الفساد والريعية والجريمة المنظّمة (سياسياً) وتلك غير المنظّمة؛ وبحالة اقتصادية على أعتاب انهيار كامل، وأزمة في العيش لا تُطاق، وتحديات تحتاج إلى قوانين وقرارات صعبة لا يستطيع العالم والبنك الدولي أن يبدأ في عمل الإسعاف إلّا بتوفّرها، مع الإخلاص في تنفيذها أيضاً. لم تُفرز الانتخابات أغلبية واضحة قادرة على تلك المهام، إضافة إلى التهديد الحقيقي الذي يمكن لحزب الله أن يشكّله في حال إحساسه بالخطر الجديّ على مصالحه، سواء من خلال ما يمكن أن يضغط به على أساس احتكار التمثيل الشيعي، أو بالعودة إلى مناورات الاستفزاز التي تبدأ من خلال” الشبيحة” وتتصاعد باتّجاه إشهار السلاح. يمكن أيضاً لحزب الله أن يحاول إعادة تركيب المعادلة عن طريق افتعال الحرب مع إسرائيل، بكلّ ما يمكن أن تجرّه على اللبنانيين، وعلى شيعتهم بالذات أولاً. لا يمكن لأحدٍ أن” ينصح” اللبنانيين بما ينبغي لهم أن يقوموا به، ولا يحق ذلك له أيضاً. ولكن سورياً من السوريين، قد يحلم أو يحاول ترديد دروسه التي خبرها في مسار مأساته الخاصة، والتي قد تُخطئ وتصيب. هنالك حاجة إلى المفاضلة ما بين الأهداف، وإلى ترتيبها زمنياً من دون أيّ إهمال لهدف قد يكون أكثر أهميّة من بعض النواحي، لكنه ليس بالاستعجال الذي يميّز غيره. هنالك أيضاً ذلك الفخّ الطائفي الذي يبرع فيه الطرف الآخر ويتقنه، إضافةً إلى آليات في التحالفات قد تتغيّر طبيعتها بين مرحلة وأخرى. وما علينا، ذلك نافل وأهل مكة أدرى بشعابها وسراديبها وأشواكها. ما يمكن لسوري كالذي أشرنا إليه أن يقوله، هو أن تجربة الثورة السورية التي فشلت أو انهزمت أو ما شئتم، أثبتت أن غياب الاستراتيجية وترتيب الأولويات وتوزيعها، مع التنظيم والتقاط الائتلاف – وأعوذ بالله من تلك الكلمة- والتحالف الضروري؛ مع الحفاظ على وحدة صفٍّ ضرورية ومطلوب حلّ إشكالاتها والتقدّم نحوها بأسرع شكلّ ممكن؛ كلها مستلزمات ومتطلبات غير نافلة، بل ملحّة. ربّما كان أوّل ما ينبغي هو تنظيم كتلة أو بنية لأبناء 17 تشرين والأقربين إليه. من ذلك الأساس يمكن لكلّ شيء أن يصبح أكثر فعالية في المستقبل.
قد تكون استعادة واستدامة روح 17 تشرين، ووصل ما انقطع أو تقطّع من خيوط وروابط لشبكة ذلك الحراك العظيم، والتفاهم المباشر بين الشباب ونوابهم وقواهم التي تفرّقت للأسف، وتوزّعت خلال الفترة الماضية، قد تكون ضمانة تساعد على تحقيق ما أراده أولئك” الثوار” الذين ما زال كثير منهم مجهولين وربّما مُحبطين. قد تكون إمكانية إبقاء الشارع جاهزاً للعودة إلى الحراك قادرة على تحقيق الأهداف المرجوّة بمروحتها العريضة، من استعادة السيادة والدولة، إلى تحديث هذه الأخيرة، إلى مواجهة الأزمة الاقتصادية المعيشية الخانقة، إلى ترتيب ورشة بناء ذات مضامين نعرف أن أولئك اللبنانيين قادرون عليها حين تأتي الشرارة و”تِحبُكْ”! أخطأ ثوار 17 تشرين في عدم تطوير وحدتهم وتخليقها قبل الانتخابات، وكانوا قادرين كما أدركوا وأدركنا على تحقيق ضعف النتيجة التي تحققت، وبحالة تعبوية أفضل، ولكن مقاطعة البعض منهم، وتفرق جماعاتهم، جعلا تلك النتيجة – الكبيرة- أقلّ مما كان ممكناً. وليس خطأ الحريري بحقّ نفسه وتياره والسنة واللبنانيين؛ الخطأ الناجم عن ضعف الكفاءة والسياسة والإرادة؛ بتبرير لما فعله الشباب. هي فرصة تاريخية أكبر مما تحقّق بالفعل، يشبه الكثير من فرص السوريين الضائعة. لكنّنا لا نذكر نحن وأمثالنا في هذه الأيام أحداً كما نذكر سمير قصير، الذي قال قديماً إن استقلال لبنان وديمقراطية سوريا معركة واحدة. ولو كان لا يزال قادراً على الكلام لسمعناه يقول إن الطريق الذي قطعناه معاً كان طويلاً وأليماً ومكلفاً، ولكن أقدارنا تجمعنا معاً.
وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن هناك نحو 839 ألف لاجئ سوري مسجلين لديها في لبنان، في حين تقول الحكومة اللبنانية، إن هناك أكثر من مليون ونصف سوري يعيشون على أراضيها… في ظلّ حالة منع التجوّل، أوصلوا أصواتهم عبر الريح من ملاجئهم كما يبدو! تحية لثوار لبنان وشبابه، لبيروت التي اشتقنا إليها كما اشتقنا إلى دمشق.

القدس العربي – 24

الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة