مقالة رأي: بسمة قضماني.. روح تهزّ جبلاً، وعقل يعقله!
الكاتب: موفق نيربية
تاريح 04.03.2023
بعد آلامٍ استمرت أربعة عشر شهراً، رحلت بسمة قضماني، وتركتنا وراءها لا ندري هل نحسدها أم نألم لرحيلها وحسب. لا ندري هل نرى في مسيرتها دروساً ونهجاً وحافزاً للقيام بالمزيد على الطريق ذاته، أم نستخلص حكمة اليأس واللا جدوى!
استدعت ذاكرتي مقالة قديمة لبسمة مع خبر وفاتها الحزين، سوف أعرض لها هنا في سياقها.
كان آخر ما قامت به- قمنا به – هو مشروع لنزع عقدة المسألة الكردية من المعضلة السورية. وانطلقنا مع رفاق آخرين لملاقاة مجلس سوريا الديموقراطية في منتصف الطريق، واعتماد نهج لبناء ما لم تستطع المعارضة الديموقراطية السورية (العلمانية بطريقة أخرى) أن تقوم به، وهو بناء وحدتها بشكل فعّال يمثّل عملياً الشريحة الأكثر اتّساعاً من السوريين، الذين نحسب أنهم بمعظمهم معتدلون ووسطيون وديموقراطيون ومدنيون. لقد جعل فشلنا في تلك المهمة من اليمين والرجعية والظلامية طليعة لثورة لا علاقة لهم بها، إلّا في كونهم مضطهدين بعنف مقصود من قبل النظام، الأمر الذي لا يوجد بيننا من لا يقدّره ويأخذه في الحسبان.
من أجل تنفيذ تلك المهمة: ينبغي البدء بالتحضير للقاء أو مؤتمر القوى والشخصيات الديموقراطية في سوريا، ابتدأنا بما أصبح اسمه” مسار ستوكهولم”، وكانت بسمة ركناً أساسياً فيه. لقد اعتبرت واعتبرنا أن هنالك عُقَداً في طريق حلّ معضلتنا ينبغي تجاوزها مسبقاً، لأنها دائما تتحرّك بعد أن نتحرّك وتحبط مساعينا. ومن أهم تلك العقد المسألة الكردية/السورية.
لطمأنة الكرد السوريين- وغيرهم- إلى مستقبلهم كان لا بدّ من اعتماد اللامركزية مسبقاً، ومن أجل إقناع السوريين الآخرين أن الكرد لا يرمون إلى تقسيم سوريا كان ينبغي اعتماد هوية وطنية سورية، لا عربية ولا كردية، لا سنّية ولا شيعية أو علوية: ولا يتحقق ذلك إلّا بالعودة إلى اسم البلاد يوم تأسست ثمّ استقلت: الجمهورية السورية.
كذلك لا بدّ من تحسين مستوى تمثيل السوريين بعد أن تراجع وهوى حتى قارب الحضيض بسبب غياب القرار المستقل وهيمنة تحالف من تشكيلات الإسلام السياسي مع تشكيلات أخرى لا ينطبق عليها إلّا وصف الانتهازية والبراغماتية المجرّدة. كان الرأي بأن التقدّم على أرض صلبة نحو خلق وتأسيس كيان للديموقراطيين السوريين سوف يساعد بقوة على تحقيق ذلك وتغيير الصورة المهينة التي وصلنا إليها.
وشيء آخر جذري اهتمت به بسمة منذ بداية الثورة المغدورة في آذار ٢٠١١، التي آذنتها بفجر قريب لمأساة بلدها التي عانت منها منذ اغترابها عن بلدها بشكل قسري مع عائلتها وهي في العقد الأول من عمرها. ذلك كان إشكالية التغيير وعقبته المتمثّلة بالطائفية كعقدة خلقها النظام واستجابت لها قوى الثورة المضادة، حين أسهم الطرفان نظرياً وعملياً بتأجيجها بين السوريين.
وفي إحدى منعطفات الثورة، في أواخر تموز ٢٠١١، نشرت بسمة مقالة في منتهى الأهمية في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، تحت عنوان “حتى نطيح بالأسد، لا بدّ من أقلّية!”. افتتحته بالقول:” بعد أربعة أشهر من المظاهرات الشعبية والقمع العنيف، بما في ذلك القمع الدموي على مدينة حماة وسط البلاد يوم الأحد، لا يزال الرئيس السوري بشار الأسد يرفض التنحي، ويصر على أنه يستطيع إصلاح نظامه.
ما يحافظ على الأسد في السلطة هو الجهاز الأمني الواسع الذي صممه والده حافظ الأسد، ويهيمن عليه العلويون- الأقلية شيعية.
العلويون، الذين يشكلون 12 في المائة فقط من سكان سوريا، قد ألقوا بمعظم دعمهم غالباً وراء الأسد، يدفعهم خوفهم من أنه إذا تمت الإطاحة به فسيتم ذبحهم. إذا كانت المعارضة الديمقراطية في سوريا ستنجح، فعليها أولاً إقناع العلويين بأنهم يستطيعون الانقلاب بأمان على نظام الأسد.”
لم ينتشر المقال بالعربية، ولكن أهل الثورة المضادة يعرفون الإنكليزية جيداً. لقد رأى هؤلاء حتماً في ذلك الرأي شيئاً يعيق منهجهم في التنظير والتحريض الطائفيين، ضمناً ما لم يكن علناً، وفي الدوائر القريبة الضيقة لا تلك الواسعة المنشورة تحت الشمس.
كانت بسمة ترى بوضوح ما هي معيقات التغيير الجذري باتّجاه مستقبل حر وديموقراطي لسوريا، ليس في المشكلة الكردية والمكوّنات الإثنية وحدها، بل أيضاً في المشكلة الدينية أو الطائفية:” يقع العبء على الأغلبية السنية لطمأنة العلويين والأقليات الأخرى مثل المسيحيين والدروز والشيعة – الذين يعتقدون أنهم بحاجة إلى حماية النظام – بأنهم لن يتعرضوا لأعمال انتقامية. يمكن لهؤلاء القادة الدينيين والسياسيين السنة إنقاذ سوريا من شياطينها الطائفية.”
كان أحد الزعماء السوريين يقول لي” مازحاً”: لا يمكن العبور إلى المستقبل إلّا بعد أن تشفى القلوب؛ وربّما لا مفرّ من الضحايا بين الأقلية الحاكمة هنا وهناك، خصوصاً حيث لا يقطنون في مسقط رأسهم… ويبدأ في التفاوض علي عدد تلك الضحايا المفترضة.
كان لافتاً أيضاً أن تخلص بسمة بعد ذلك إلى القول:” السوريون فقط هم من يمكنهم الشروع في هذه العملية الدقيقة. الحكومات الأجنبية، سواء العربية أو الغربية، لديها أدوار محدودة لتلعبها. تتشكل بعض جوانب البنية النفسية السورية من خلال ذكريات التدخل الأجنبي، وهو أمر لم يخترعه نظام الأسد، بل استغله.
في سوريا، أي شخص يدعو إلى التدخل الخارجي من المرجح أن يتم وصفه بالخائن. وبالتالي فإن أي تهديد غربي بعمل عسكري سوف يضر بالمعارضة أكثر من النظام. يمكن للقوى الخارجية أن تلعب دوراً مفيداً بإعلانها أنها لن تستخدم القوة العسكرية. مثل هذا التصريح من شأنه أن يضعف حجة السيد الأسد بأن الانتفاضة هي نتيجة تدخل خارجي ويزيل مصدر قلق رئيسي بين الأغلبية المترددة في سوريا.”
لتنهي بعد ذلك مقالتها بأن السوريين من جميع الأطياف قد بدأوا “يدركون أن الجميع ضحية لهذا النظام وأن المؤامرة الحقيقية هي مؤامرة عائلة الأسد نفسها. يجب على القادة السنّة (أنفسهم) التحرك الآن لمنع الثورة من الانزلاق إلى حرب أهلية من خلال طمأنة الأقليات بأنها لن تواجه أعمال انتقامية في سوريا الجديدة. وهذا من شأنه أن يجلب العلويين إلى صفوف المعارضة ويضع ختماً على عملية إنهاء النظام.”
كان الطائفيون يقولون إن مثل ذلك الحديث هو كلام طائفي غير مقبول، ولم يعرفه السوريون طوال تاريخهم القديم والحديث. بعضهم كان رسمياً من تشكيلات الإسلام السياسي، التي تحوّلت بالثورة بالأسلمة إلى العنف والسلاح، وقادتها إلى حيث تخضع لضدّها، للثورة المضادة.
كانت بسمة قضماني ثروة وطنية سورية، قضت وهي مستمرّة بالعمل في الفكر والسياسة من دون كلل، رغم كلّ الكآبة والإحباط من حولها… وحولنا!
المصدر: نورت بريس
North Press agency
تاريخ: 04-03-2023