كنا عايشين- المحامي محمد علي إبراهيم باشا
تتحسر فئة كبيرة من المجتمع السوري بكافة ألوانه واطيافه (موالون ومعارضون ورماديون ) وتذكر بألم ما لحق بها من ضرر وخسائر نتيجة للثورة السورية وتطوراتها ومآلاتها وتعقيدات نتائجها متغنين بالأمن و الأمان السابقين ووفرة السلع الضرورية من مواد غذائية ومحروقات وأدوات كهربائية وسلع كمالية ….الخ ورخص أسعارها بالقدر الذي منح الشعب السوري الحد الأدنى من الاستقرار والراحة والأمان المعيشي مقارنة بالحالة التي وصلت اليها، بعد اندلاع الثورة وانحرافها عن مسارها الأساسي، من فقر و جوع واذلال وانعدام للأمان وفقدان للرعاية الصحية ودمار في البنية التحتية و المنشآت الاقتصادية والتعليمية و الصحية و الصناعية …الخ و الهزة الكبيرة التي أصابت المجتمع السوري نتيجة للحرب التي أسفرت عن موت مئات الآلاف من الناس ونزوح داخلي وخارجي.
هذه الهزة، وان لم تهدم جدار ذلك المجتمع بالكامل حتى تاريخه على الأقل الا أنها خلخلت بنيانه الديمغرافي والاجتماعي بالقدر الذي جعلهم يتأسفون قيامها ويتمنون بقاء الوضع على ما كان عليه رغم كل الصعوبات التي كانوا يعانون منها ورغم كل القمع والانتهاكات التي كانوا يتعرضون لها.
هل كانت هذه الفئة على حق فيما ذهبت اليه وهل كان السوريون يعيشون بالفعل حياة كريمة دمرتها الثورة؟ وهل المطالب والشعارات التي رفعها الثوار السلميين بداية لم تكن بحجم كل هذه التضحيات والآلام والمعاناة ولا تتناسب معها؟
أسئلة مشروعة تفرض على النخبة السورية المثقفة التصدي لها بإجابات مقنعة من شأنها أن توضح حجم المسألة وأبعادها وحقيقتها وتخفف من معاناة الشعب السوري بكافة فئاته وخاصة المعارضة منها للنظام السوري وتحد من حالة جلد الذات التي يعاني منها أغلب السوريون المتحسرين على أيام لن تعود.
كان من الممكن لكل تلك الأصوات و الآراء أن تكون صحيحة بالفعل لو أن البؤس و الفقر و تقصير الحكومة في الحفاظ على حقوق الناس من لباس أو طعام أو إمكانية التكاثر هي الأسباب الحصرية الوحيدة المحفزة والمبررة للمجتمعات كي تطالب بالتغيير، وهذا غير صحيح أبداً فعلى الرغم من أهمية تلك الحقوق الا أن التاريخ الإنساني أثبت أنها كانت على الدوام في ذيل سلم الحقوق التي تمسك بها الانسان وأن هناك حقوق أخرى أهم بكثير من مجرد الطعام واللباس والتكاثر وان أختلف ترتيبها بين مجتمع وآخر وفيلسوف وآخر …الخ الا أن الغالبية اتفقوا على أن الحقوق الثلاثة العظمى و الأساسية هي ( الحياة ، الحرية ، الملكية ) وأن تاريخ العالم ليس الا تقدم الوعي بهذه الحقوق فقد ذهب كانط على سبيل المثال الى أن الحرية الإنسانية هي النقطة النهائية في التاريخ الإنساني في حين ذهب كوكجيف الى أن مبادئ الحرية والمساواة التي نجمت عن الثورة الفرنسية تمثل النقطة النهائية لتطور الانسان الايديولوجي وهي نقطة لا يمكن تجاوزها وان الرغبة الناشئة عن طبيعة الانسان هي في أصلها تعبير عن الرغبة في نيل الاعتراف والتقدير وما المخاطرة بالحياة الا من أجل اشباع تلك الرغبة وبالتالي فان أي حديث عن مصدر الوعي بالذات هو بالضرورة حديث عن معركة حياة أو موت من أجل الاعتراف والتقدير في حين أن هيغل يرى في الانسان كائنا أخلاقيا ترتبط كرامته بتحرره من القيود المادية والطبيعية و هذا البعد الأخلاقي والصراع من أجل الاعتراف هما المحركان للمسار الدياليكتيكي للتاريخ وان الاحساس بالكرامة او بقيمة الذات التي هي أساس الثيموس ( الثيموس هو حس انساني فطري بالعدالة ) مرتبط باعتقاد الانسان بأنه كائن أخلاقي بوسعه الاختيار حقا وأن هذا المفهوم عن الذات خاصية لصيقة بكل الآدميين سواء كانوا غزاة عظماء فخورين أو أشخاص متواضعين وأن الروح الثورية، في القرون الأخيرة أي التوق الى التحرر والى بناء بيت جديد حيث يمكن أن تستوطنه الحرية، هي روح لا مثيل لها في التاريخ الانساني السابق بأسره.
في حين يرى جون آدامز في رسائله الى جيفرسون أن الرغبة الإنسانية لا تنحصر في المساواة أمام القانون بل في التفوق الذي سيكون الى الأبد المنبع الكبير للأفعال الإنسانية بعد حفظ الذات ويذهب توماس هوبز الى أن كل انسان يسعى الى أن يقيمه زميله كتقييمه لنفسه فان بدرت من زميله بادرة تشير الى الاحتقار أو الانتقاص من القدر كان من الطبيعي أن يحاول بقدر ما تواتيه الجرأة في انتزاع أكبر قدر من التقدير ممن ناصبوه الاحتقار عن طريق ايذائهم ومن الآخرين بجعلهم عبرة لهم.
من هنا تتضح لنا أهمية الحق بالحرية و الإحساس بالكرامة الإنسانية وبقيمة الذات وبالمساواة أمام القانون وبالتفوق وأن الأهداف الأساسية في الحياة قائمة لدى كل انسان يملك قدر من الشوق الى الكرامة الإنسانية التي هي من حقه والى الإخلاص للمبادئ الأخلاقية والى التعبير الحر عن كيانه ومن ثم فان أي نظام سياسي صالح يحتاج الى أن يشبع رغبة الانسان العادلة بحريته و بالاعتراف بكرامته وقدره وان جميع تلك الحقوق مقدمة على المأكل والملبس و التعليم والطبابة ..الخ
وحيث أن النظام السوري هدر طيلة سنوات حكمه كافة الحقوق المشار اليها أعلاه واعتدى عليها فلا حرية للسوريين ولا كرامة إنسانية لهم ولا مساواة أمام القانون ولا تشجيع على التفوق ولا استقلال في السلطات وقوانين استثنائية تعتدي على الحريات وعلى الملكيات و توليتارية مقيتة ركزت جميع الصلاحيات في شخص رئيس الدولة …الخ التجاوزات التي يعرفها الجميع ولا مجال لحصرها في دراسة أو مقال بالقدر الذي برر الثورة عليه ومنحها الشرعية القانونية لان حكوماته المتتالية منذ عام 1970 كانت مستبدة وديكتاتورية وفاسدة أهانت غالبية السوريين وانتهكت كراماتهم واعتدت على حقوقهم وان انتفاء البؤس كما يدعي جماعة كنا عايشين (وهو ادعاء باطل ) لاينفي الانتهاكات المشار اليها آنفا و يبرر الثورة على النظام بقصد التخلص منه والعودة الى النظام الوطني السوري الذي قاد سورية اثناء الانتداب الفرنسي وبعد الاستقلال أو استبداله بنظام وطني ديمقراطي مدني ليبرالي علماني .
كثيرة اذاً هي البديهيات التي تُثبت للسوريين أن ثورتهم مشروعة ومقوماتها موجودة فلا مكان ولا ضرورة لجلد الذات بل التقدم بتحقيق أهدافها ونبذ ما شابها من انحرافات هو الطريق الاسلم والأجدى.
*اللوحة المرفقة بالمقال للفنان السوري تمام عزام