جنيف بعيدة والحسم أبعد… وتفكك سورية هو الأقرب! ـ جورج سمعان
إذا كان انعقاد مؤتمر «جنيف 2» رهناً بتحقيق المعارضة السورية توازناً عسكرياً على الأرض بعد التقدم الذي أحرزته قوات النظام في الشهرين الماضيين، فعلى المتفائلين ألا يحددوا له موعداً. ألا يتوقعوا أيلول (سبتمبر) أو غيره. عليهم أن ينتظروا مزيداً من التصعيد الذي لم يفض حتى الآن سوى إلى مزيد من التدمير للحواضر والمدن السورية، وإلى تعميق الشرخ بين مكوناته البشرية. وإذا كان هناك من ينتظرون تفاهماً إقليمياً ودولياً على تسوية ما، فعليهم ألا يتوقعوا مثل هذه التسوية قبل حلول موعد انتهاء ولاية الرئيس بشار الأسد في تموز (يوليو) من السنة المقبلة.
تحقيق التوازن العسكري على الأرض ليس رهناً بتسليح لفصائل «الجيش الحر»، أياً كان نوع هذا السلاح. قد يحسن شروط المواجهة لكنه لن يغير في المعادلة، ما دام النظام يتلقى كل ما تحتاج إليه ترسانته من روسيا وإيران، ولا يعوزه الرجال في الداخل ولا من خارج الحدود، من لبنان والعراق و «الحرس الثوري»… في المقابل لم تغير سيطرة قوات النظام على مدينة القصير شيئاً في ميزان القوى على الأرض. وحتى سقوط حمص، إذا قدر له أن يبسط سيطرته عليه، لن يغير في جغرافيا المواقع كثيراً. فالمجموعات المسلحة المختلفة تبسط سيطرتها على مناطق واسعة من شرق البلاد وشمالها وجنوبها، وإن على أنقاض المدن والقرى والدساكر.
ثمة وهمٌ كبير يعوق التقدم نحو حل سياسي للأزمة، سواء كانت في جنيف أو خارجها. فالنظام يعتقد بأنه قادر بقوته العسكرية والدعم الثابت من حلفائه الإقليميين والدوليين على هزيمة خصومه وفرض عناصر التسوية وشروطها بأقل الخسائر السياسية الممكنة. كأن يعطي المعارضة – والمعارضة التي يختارها هو – حيزاً ودوراً سياسياً محدوداً في «حكومة التوافق» التي يفترض أن تنشأ بعد وقف القتال. والمعارضة تعتقد بأن تحقيق تقدم على الأرض أو استعادة التوازن سيحشر النظام ويهدده بالسقوط. وهذا ما سيرغمه على التفاوض لتسليم السلطة قبل انتهاء ولايته، وسيتيح الحفاظ على بعض هياكل النظام ويحافظ على الحد الأدنى من التعايش بين مكونات البلاد العرقية والطائفية والمذهبية.
هناك واقع لا يمكن طرفي الصراع تجاهله والتعامي عنه. الوضع الاقتصادي ينذر بثورة جياع. الدولار قفز قفزة مرعبة مقابل الليرة. ومهما حاولت إدارات النظام التدخل لوقف تدهور العملة الوطنية فإنها لن تستطيع كبح جماح سقوطها. ألا تكفي تجربة لبنان وما حل بليرته في الحروب الأهلية أو تجربة العراق وما حل بديناره أثناء «حروب الخليج الثلاث» مثالين حيين إلى اليوم؟ الدخل الوطني من عائدات النفط الذي كان يشكل نسبة كبيرة من تمويل الموازنة يكاد يكون معدوماً. معظم الآبار يقع تحت سيطرة المجموعات المسلحة. وحتى بعد رفع العقوبات الأوروبية عن تصدير النفط السوري الذي يقع تحت سلطة «الجيش الحر»، لا يمكن المعارضة الإفادة من هذا القرار لأن غالبية الآبار دمرت محطاتها ووسائل استخراجها ونقلها. ولا حاجة إ لى ذكر ما حل بقطاعات الزراعة والصناعة والسياحة والاستثمار. أما إيران التي لا تزال تمد نظام دمشق ببعض السيولة التي يحتاج إليها رجاله وعسكره وميليشاته فلن تكون قادرة بالتأكيد على منع الانهيار الكبير. لن تكون قادرة على توفير مقومات العيش لحوالى 24 مليوناً. إضافة إلى أن الرئيس الجديد في طهران حسن روحاني لن يجد مفراً من إعادة النظر في سياسات سلفه من أجل تصحيح الأوضاع الاقتصادية في بلد يرزح تحت نير عقوبات شديدة الوطأة لن تسمح له بتوزيع المساعدات يميناً وشمالاً. فهل يخرج سيف الجوع السوريين من بيوتهم واصطفافاتهم الحالية؟ ومتى؟
على الصعيد الميداني قد لا يكفي تسليح المعارضة بالوتيرة الحالية لحسم الحرب. صحيح أن دولاً عربية تمد «الجيش الحر» بما يحتاج إليه من معدات وعتاد وذخائر تكفيه للصمود، وربما التقدم في مواقع وجبهات. لكن هذا التسليح لا يوفر لهذا الجيش القدرة على الحسم. كل التقديرات الغربية وتقارير الخبراء العسكريين تستبعد هزيمة النظام ما لم يكن هناك تدخل خارجي أوروبي أو أميركي، على غرار ما حصل في ليبيا. لكن هذا السيناريو يبدو مستحيلاً وليس صعباً فحسب. ألا يكفي دليلاً أن بريطانيا وفرنسا اللتين كانتا أكثر الدول الأوروبية حماسة لتسليح المعارضة فترت همتهما لأسباب عدة، منها المعارضة السياسية لقوى داخلية في كلا البلدين. ومنها المخاوف المتزايدة من وقوع السلاح المتطور في أيــــدي قوى متطرفة أو في أيدي «مجاهدين» خرجوا من معظم الدول الأوروبية. إلى كل هذه الاعتبارات لم تكف روسيا منذ اليوم الأول لاندلاع الحراك على تحدي الجميع في دفاعها الثابت والمستميت عن النظام في دمشق. كما أن إيران التي استثمرت الكثير في دمشق وبيروت لن تسحب يدها و«قواتها» مهما كانت الضغوط.
والأهم من كل ذلك أن لندن وباريس تحتاجان، في أي مشروع تدخل، إلى دعم من حلف «الناتو»، أي من الولايات المتحدة. فضلاً عن الدعم السياسي. وحتى الآن لا يبدو أن هناك ضوءاً أخضر أميركياً. فإدارة الرئيس باراك أوباما اختارت منذ اليوم الأول لاندلاع الأزمة في سورية أن تنأى بنفسها عن أي تدخل. وهو موقف ينسجم مع موقفها العام من العاصفة التي هبت على العالم العربي من تونس وليبيا ومصر إلى اليمن وسورية. لم تبد أي استعداد لمساعدة هذه البلدان على تجاوز آثار التغيير الذي حصل. لم تمارس دورها الريادي والقيادي في العالم. توكأت على مزاج الرأي العام الذي يناهض أي تدخل عسكري أو خوض حرب جديدة، في حين ترتب خروجها الآمن من أفغانستان بعد إخلائها العراق.
ولا حاجة هنا إلى تكرار ما كرره مسؤولون في واشنطن من أن أولوية الولايات المتحدة اليوم هي شرق آسيا والمحيط الهادئ. لم يعد الشرق الأوسط في سلم الاهتمامات… أللهم إلا ما خص أمن إسرائيل التي خسرت «خصومها» الكبار بجيوشهم التي كان يمكن أن تشكل تهديداً. فبعد ما حل بالعراق وجيشه، كان دور الجيش السوري… ويخشى أن تتطور الأوضاع في مصر ويتعمق التحدي الذي تواجهه قواتها المسلحة… فيما تنشغل الديبلوماسية الأميركية باستئناف المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، في ظرف ينشغل كبار العرب بأزماتهم وتداعياتها… ولا يقض مضاجعها أو يحرك دوائرها سقوط أكثر من مئة ألف قتيل في سورية حتى اليوم وملايين المقتلعين من ديارهم ومئات آلاف اللاجئين إلى دول الجوار وما يشكل تدفقهم من أخطار على الأوضاع الأمنية والاجتماعية والاقتصادية في الأردن. ومن تهديدات للتركيبة الديموغرافية في لبنان حيث بلغ التوتر المذهبي حد الأنفجار الدموي الواسع لولا هذا الخلل في ميزان القوة بين الشيعة والسنّة في بلد لن ينجو من الآثار السلبية عاجلاً وليس آجلاً.
في ظل هذه الظروف والمعطيات يبدو الحسم العسكري بعيد المنال لأي طرف، إن لم يكن مستحيلاً. وحتى مؤتمر جنيف يبدو بعيداً. فلا المعارضة مستعدة للتفاوض والحوار ما لم تتحقق لها غلبة ما على الأرض تفرض التغيير المنشود ورحيل النظام بكل رموزه الذيني شاركوا في الحرب على الأقل. ولا النظام مستعد للرحيل ما دام يعتقد بقدرته على هزيمة خصومه. ولا يبدي أي استعداد للتهاون مع رموز المعارضة. فالذي يريد تسوية تفترض تقديم تنازلات متبادلة لا يلجأ إلى «محكمة الإرهاب» ليصدر قرارات بإعدام قيادات ورموز معارضة يفترض أنه سيجلس في مواجهتها لمناقشة أطر الحل السياسي، وإجراءات قيام حكومة موقتة كاملة الصلاحيات يتقاسمونها مع بعض رجالات نظامه!
كان الهدف ولا يزال وراء الدعوات إلى جنيف أو الحل السياسي عموماً هو الحؤول دون انهيار الدولة والحفاظ على ما بقي من هياكلها ومؤسساتها ووحدة نسيجها الاجتماعي ووحدة ترابها. لكن أحداً لا يساوره شك في أن ما يدور في سورية اليوم هو حرب بين ميليشيات، أكبرها «جيش» النظام وقواته «الشعبية». ونظرة إلى جغرافيا البلاد تظهر كيف أن مناطقها باتت موزعة مناطق نفوذ، ليس بين النظام ومعارضيه فحسب، بل بين قوى المعارضة أيضاً، من «الجيش الحر» إلى «جبهة النصرة»، و «الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام»، إلى جيوش لا تعوزها الأسماء والشعارات ومصادر الدعم مالاً وسلاحاً. حتى لا نتحدث عن الساحل الغربي وأريافه التي باتت ملاذاً آمناً للعلويين ومن الأهم. وعن بعض المناطق الشرقية – الشمالية التي يستعد الأكراد لإعلانها منطقة حكم ذاتي على غرار كردستان العراق. وعن مشروع إعلان «إمارة إسلامية» في شمال البلاد بمحاذاة الحدود مع تركيا.
ألا تنبئ هذه الوقائع بأن جنيف بعيدة بُعد الحسم العسكري، وأن الحل السياسي سينتظر ربما إلى موعد الانتخابات الرئاسية بعد عام بالتمام والكمال. عندها قد تكون روسيا وإيران مستعدتين ربما لصيغة توافق دولي – إقليمي على استبعاد الرئيس الأسد عن هذا الاستحقاق، وعلى العودة إلى خطة كوفي أنان طريقاً لا بديل منه للتسوية. لكن المقلق أن سورية قد لا يبقى منها شيء حتى ذلك التاريخ. إنها تتحول وتتحلل وتتفكك كل يوم مناطق نفوذ لميليشيات في هذه الناحية وتلك. وتتوالد من حربها «الأولى» حروب لن تكون آخرها المواجهة المتصاعدة بين «الجيش الحر» وقوى التطرف، أو بين الأكراد و «جبهة النصرة»…
22/7/2013 – الحياة