16 عاماً في السجون السورية ـ أمجد ناصر
‘لم يفٍ ما كُتِبَ عن السجن السوري حتى اليوم التجربة حقها. سُجن آلاف ومرّ بتجربة السجن عشرات الآلاف، ولم تُكتب أو تُنشر غير بضعة كتب’!
هذا ما يقوله الكاتب السوري ياسين الحاج صالح في كتابه الجديد ‘بالخلاص يا شباب: ‘ (دار الساقي، بيروت، 2012).
هناك خانة في المكتبة الأدبية العربية تدعى ‘أدب السجون’، وهي حديثة، نسبياً، في الكتابة العربية نظراً لكونها ثمرة خبرات، مباشرة أو غير مباشرة، حديثة العهد أيضاً.
يمكننا أن نلحظ بروز هذا النوع من الكتابة، بالترافق مع ما يسمى ‘الدولة الوطنية’ التي جاءت بعد الاستعمار الأجنبي، هناك نصوص كثيرة عن السجن كُتبت في فترة الاستعمار الأجنبي (مشرقاً ومغرباً) ولكنها لم تتمكن، لأسباب عديدة، من استيلاد هذا المصطلح، فظلت أعمالاً منفردة تُدْرَجُ في سياق أدبيات الكفاح الوطني العام ولكن من دون أن توضع في خانة ‘أدبية’ خاصة بها.
لا أعلم من هو صاحب أقدم نص في هذه الخانة الكتابية، ولكني أرجِّح أن يكون مصرياً، وأن يكون النصّ عن سجون العهد الناصري.
إنها لمفارقة أن تولد ‘كتابة السجن’ في عهد ‘الدولة الوطنية’ العربية وليس الاستعمار الأجنبي، وأن يكون كاتبوها أقرب، على المستوى الأيديولوجي، الى سجَّانهم من سواهم، وأعني هنا الكتاب ذوي الخلفيات الاشتراكية (الماركسية تحديداً).
ففي عقديّ الخمسينات والستينات زجَّت أجهزة أمن النظام الناصري عدداً كبيراً من الكتّاب والمثقفين المصريين في السجون بسبب معارضتهم بعض برامج نظام عبد الناصر وليس ‘جوهر’ سياسات عبد الناصر.. قد يكون الفارق في ‘فهم’ موضوع الحرية، والديمقراطية، هو الذي أدى إلى أن تشهد السجون المصرية موجة من المثقفين الاشتراكيين. كان هؤلاء الذين ينتمون، في معظمهم، الى الحزب الشيوعي المصري، يؤيدون، للمفارقة أيضاً، سياسة عبد الناصر الخارجية المعادية للامبرياليات الغربية، تصدّيه للمشروع الصهيوني، موقفه من الرجعيات العربية، مساندته لحركات التحرر العالمية، كما كانوا على وفاق مع اجراءاته ‘الاشتراكية’ الداخلية، حتى إن الحزب الشيوعي المصري قد حلَّ نفسه بطلبٍ، كما هو رائجٌ، من الاتحاد السوفييتي حليف عبد الناصر في ذلك الوقت، وربما لأنَّه لم يجد، أيضاً، فوارق كبيرة بين برنامجه وبرنامج عبد الناصر، ولكنَّ ذلك لم يمنع أجهزة عبد الناصر الأمنية من اعتقال المثقفين الشيوعيين، ناهيك، بالطـــــبع، عن كوادر الاخوان المسلمين الذين كانت الحرب بينهم وبين نظام عبد الناصر معلنة على رؤوس الأشهاد.
هكذا يمكن لنا القول إن كتابات صنع الله ابراهيم وفتحي عبد الفتاح وطاهر عبد الحكيم وشريف حتاتة ( وغيرهم) هي التي دشَّنت هذا النوع من الكتابة الأدبية في الثقافة العربية الحديثة.
‘ ‘ ‘
ريادة الكتابات المصرية على هذا الصعيد لا تعني أن نظام عبد الناصر انفرد، عربياً، في قمع الحريات وتكميم أفواه المختلفين، فما حصل في عهد عبد الناصر لا يقارن، البتة، بسجلات حزبي البعث السوداء في كلٍّ من العراق وسورية، لا من حيث نطاق القمع ومداه ولا من حيث نوعيته. لا تمكن المقارنة، انطلاقاً من مدونات المعتقلين المصريين أنفسهم، بما عرفه هذان البلدان العربيان ‘القوميان’.
وبما أن مدخلي الى هذا الموضوع هو كتاب ياسين الحاج صالح الأخير، سأقصر كتابتي، بهذا الخصوص، على ‘التجربة السورية’ انطلاقا منه.
‘ ‘ ‘
يحدِّد ياسين الحاج صالح هوية كتابه منذ الأسطر الأولى بأنه لا يتوضَّع، براحةٍ تامة، في خانة ‘أدب السجون’، كما أنه ليس بحثاً اجتماعياً عن السجون أو حتى سيرة سجين سابق، كما أنه (وهذا ما لا يُغفل ياسين الاشارة إليه) وثيقة سياسية أو حقوقية تفضح النظام السوري وتظهر جرائمه على العموم.
ففي أي خانة نضع كتاب ياسين الحاج صالح ‘بالخلاص يا شباب’؟
إنَّه يتفلت، في الواقع، من أيِّ تصنيف، وبهذا المعنى يمكنني القول إنه خليط من شظايا السيرة والتأمل والتحليل النفسي والوثيقة السياسية والحقوقية ذو نزعة أدبية ملجومة.
في نظام منعدم الشفافية، تغيب فيه الأرقام والاحصاءات لصالح الانشاء والشعار كما هو عليه النظام السوري، يصعب تحديد عدد الذين تم اعتقالهم، لأسباب سياسية، في عهدي الأب والابن، لكن بالوسع القول، من دون مبالغة، إنهم في خانة عشرات الآلاف.
أتحدث، بالطبع، عن الفترة التي سبقت الثورة السورية الراهنة، حيث يكاد يكون مستحيلاً معرفة أعداد الذين تغيّبهم، اليوم، آلة القمع السورية عن الأنظار.
بين عشرات آلاف الذين عرفوا سجون النظام الأسدي هناك عدد من الكتاب والشعراء والفنانين والصحافيين لكن قلة من هؤلاء تجرأوا على تدوين تجربتهم الاعتقالية أو التأمل فيها، وعندما أقول تجرأوا فأنا أعني الكلمة في وجهين، الأول يتعلق باستحالة كتابة هذه التجارب ونشرها في سورية أو حتى نشرها في الخارج مع وجود كاتبها في سورية، والثاني رغبة بعض المعتقلين في التغليق على تجربة السجن بإحكام في محاولة، تصعب معرفة مدى نجاحها، لجعل كلِّ ما يتعلق بالسجن وراء ظهورهم. فرغم أن السجن لأسباب سياسية شارة تميِّز اجتماعي على عكس السجن لأسباب جنائية، إلا أن كثيراً من السجناء السياسيين يفضلون نسيان تلك الأيام (أقصد السنين بالطبع!) القاسية لئلا تقف حائلاً أمام مواصلة حياتهم على نحو ‘طبيعي’. استعادة ‘طبيعية’ الحياة أمرٌ يمرُّ به قلم ياسين الحاج صالح ويلحُّ عليه.
لكن ليست الرغبة في النسيان هي التي جعلت كتابات السوريين عن السجن شحيحة قياساً بعدد السوريين الذين مروا بتجربة الاعتقال السياسي ولكن الخوف من السجن. لا أقصد الخوف من مواجهة أشباح السجن وكوابيسه بل العودة الى السجن مجدداً.
هذان السببان يفسران ندرة الكتابات الموضوعة عن تجربة الاعتقال السياسي في سورية. ‘بالخلاص يا شباب’ (وهذا بالمناسبة هو التعبير الذي يقوله المعتقلون السوريون لبعضهم بعد الانتهاء من الطعام، فيما يقول الناس الطلقاء: دايمة!) لا يأتي ليذكرنا بهذه الحقيقة، ولا ليفضح الاستبداد الذي قذف وراء الشمس أعداداً يصعب احصاؤها من النشطاء السياسيين والحقوقيين والمثقفين السوريين رجالاً ونساء، بل يأتي ليصنع فارقاً في مجاله.
ورغم صدور الكتاب في حمأة الثورة السورية وفي ذروة جرائم بشار الأسد ضد شعبه المنتفض إلا انه لا ‘يستثمر’ مادته الرهيبة كي تكون أداة تحريض سهلة ضد النظام، ولا ليصنع من نفسه بطلاً وهو الذي قضى ستة عشر عاماً من شبابه في سجون الأسدين، بل، للغرابة، كي ينقض ‘بطولة’ السجين السياسي ويفكك أسطورته. ومثلما لا يندرج كتاب الحاج صالح في خانة ‘أدب السجون’ فإن مادته لا تندرج، بدورها، في أيِّ سياق قرأناه عن تجارب الاعتقال السياسي في السجون العربية. إنها قراءة فريدة في تجربة مريرة. قراءة متخلصة من المرارة ومتطلعة، بقوة، إلى حيث تستعرض الحياة معجزاتها اليومية خارج القضبان.
وأختم بكلمات من ياسين الحاج صالح نفسه تؤكد هذا المسعى ‘التفكيكي’: ‘لنا قضية هي الكفاح ضد الاستبداد، ضد السجن السياسي، كما ضد السياسة التي تسجن، هذا يوجب تحرير قصص السجناء وسيرهم من أيديولوجية السجن الخاصة. وبقدر ما يمحو السجن الفردية فإنَّ واجب الكتابة عن السجن هو، العكس، شقُّ بطن هذا الوحش واستخراج الأفراد منه واحداً واحداً. أسماؤهم، صورهم، قصصهم، أزمنتهم الضائعة، كلّها ثمينة، وكلّها فذّة’!
25/7/2013 – القدس العربي