ضابط «الكي جي بي» في معركته السورية ـ ياسر الزعاترة
يتعامل بعض بقايا اليسار العربي مع التدخل الروسي في الشأن السوري كما لو كان جزءا من الحرب الباردة, حيث كان الاتحاد السوفيتي يدعم القوى الشيوعية واليسارية في مواجهة «الإمبريالية الأميركية والغربية»، متجاهلين حقيقة أن روسيا اليوم لم تعد قوة اشتراكية، بل قوة رأسمالية إمبريالية، شأنها في ذلك شأن القوى الأخرى التي تقيس تدخلاتها في الشؤون العالمية بمقدار ما تجنيه من مكاسب على مختلف الأصعدة، ولذلك يبدو رفض التدخل الأجنبي في سوريا عبثيا حين يتجاهل التدخل الروسي، والذي يصل في بعض تجلياته حدود الوصاية على النظام، في الوقت الذي يتجاهل فيه قوميون ويساريون أيضا التدخل الإيراني، والذي يجري التعامل معه كما لو أن إيران حركة ثورية مبدئية على غرار جيفارا تحمل سلاحها من أجل نصرة المستضعفين في أي مكان، وليست دولة قومية إقليمية لها مشروعها السياسي الخاص، والذي يتجاوز المذهب حين يتعارض مع مصالحها، كما حصل عندما وقفت إلى جانب أرمينيا ضد أذربيجان في الصراع على إقليم ناجورنو كاراباخ، رغم أن غالبية سكان أذربيجان هم من الشيعة. أما الأسوأ فيتمثل في مقارنة الوصاية الروسية على النظام السوري بدعم كلامي لثوار سوريا من قبل الغرب, الذي ظل طوال الوقت يضغط لمنع السلاح النوعي عن الثوار للحيلولة دون الحسم، مع الإبقاء على النزيف مستمرا.
لن نتوقف هنا عند مشروع إيران كنقيض للمشروع العربي في الوحدة والنهوض، أقله بعدما تجاوز حده بالسيطرة على العراق، ولبنان, ومد أذرعه نحو تدخلات في الخليج واليمن، وسنتوقف عند المشروع الروسي في طبعته البوتنية (نسبة إلى بوتن)، ولنسأل عن الأسباب التي تدفعه إلى هذا المستوى من التصلب في الانحياز لنظام بشار في معركته ضد شعبه.
كثيرة هي الأسباب التي تدفع بوتن إلى هذا المستوى من التعويل على المعركة السورية، لكن ما ينبغي قوله ابتداء هو أن روسيا في المرحلة السورية تختلف عنها في مراحل سابقة، كما في المرحلة العراقية على سبيل المثال حين سكتت موسكو على احتلال العراق، فقد كانت يومها في حالة ضعف، وإذا قورن الأمر بالمرحلة الليبية فإن موسكو تعتبر أنها تعرضت لخديعة بموافقتها على التدخل العسكري في ليبيا، مع أنها ربما فعلت ذلك لأنها وجدت أن التدخل واقع لا محالة، ولو من خارج مجلس الأمن، كما في العراق، ولذلك فضلت الموافقة عليه على أمل جني بعض المكاسب بدل الخسارة الكاملة.
في هذه المرحلة يبدو بوتن في وضع جيد، فقد تجاوز أزمته الاقتصادية بسبب أسعار النفط والغاز، وأحكم قبضته على السلطة بعد تهميش معارضيه، فيما تراجع نفوذ الولايات المتحدة بعد هزيمتها في العراق وترنحها في أفغانستان، وصار المشهد الدولي أقرب إلى التعددية القطبية منه إلى الأحادية التي وسمته منذ مطلع التسعينيات بعد حرب البلقان التي جاءت عقب تفكك الاتحاد السوفيتي.
هكذا وجد بوتن أن المشهد الدولي صار يمنح روسيا القدرة على احتلال موقع قطب كبير، وذلك بدل البقاء في موقعها القديم كقوة أقل نفوذا يمكن للولايات المتحدة والغرب أن تقدم لها بين الحين والآخر نصائح في احترام حقوق الإنسان والحرية والتعددية.
والحال أن هذا البعد المتعلق باستخدام الملف السوري في استعراض القوة والنفوذ هو الأكثر أهمية في عقل ضابط الكي جي بي، من دون أن يجري تهميش الأبعاد الأخرى المتعلقة بالمصالح والعقد النفسية أيضا، وها هو بوتن يجد نفسه الأقوى بين زعماء الدول، والزعيم الذي يحج إليه الجميع طمعا في التفاهم معه، وهو بُعد نفسي بالغ الأهمية، له كزعيم، ولدولته كقوة وحضور.
في سوريا، ثمة رمزية لبقايا النفوذ الدولي العسكري لسوريا، إذ تتواجد أكبر قاعدة عسكرية روسية في طرطوس، وفي سوريا استثمارات كبيرة في النفط والغاز وتبادلات تجارية، من دون أن يجري تهميش البعد المتعلق بكره بوتن للثورات بشكل عام، فكيف حين تأخذ في كثير من تجلياتها الطابع الإسلامي الذي يذكّره بمعركته الكبيرة في الشيشان والقوقاز، تلك التي لا يمكن القول إنها انتهت تماما في ظل حقيقة أن %15 من سكان روسيا مسلمون، ووجود دول آسيا الوسطى التي يشكل المسلمون %90 من سكانها كجزء من النفوذ الطبيعي لروسيا كوريث للاتحاد السوفيتي.
في ذات السياق، لا ينبغي لنا أن نتجاهل البعد الإسرائيلي في مشهد التعاطي الروسي مع الملف السوري، وهنا يفتضح تعاطي المؤيدين للنظام من طائفيين وقوميين ويساريين حين يتوسلون حكاية المقاومة والممانعة، إذ تتبدى روسيا كأحد أهم الدول المتعاطفة مع مطالب الأمن الإسرائيلي، وحين يتوقف بوتن عن تزويد النظام السوري بمنظومة أس300 الصاروخية, بناء على طلب نتنياهو، فهذا دليل على سقف التعاطي الروسي مع الصراع العربي الصهيوني، ويصل الأمر حد صمته المطبق على استهداف الطيران الإسرائيلي لشحنة صواريخ «ياخنوت» الروسية المضادة للسفن في ميناء اللاذقية (سكت النظام وإيران وحزب الله أيضا)، ولا ننسى أن روسيا جزء من الرباعية الدولية ذات المطالب البائسة من الفلسطينيين.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل ستربح روسيا معركتها في سوريا؟ الإجابة هي لا، لأن الوضع في سوريا لن يعود بحال إلى ما كان عليه قبل الثورة مهما طال أمد المعركة التي ترتب عليها أيضا خسارة روسيا لغالبية المسلمين، لكن الاستنزاف هنا سيكون من نصيب إيران أكثر من روسيا التي لا تدفع غير القليل في المعركة, تاركة لطهران مهمة التمويل.
يبقى القول إن روسيا ما زالت تخدم، ومعها إيران، فضلا عن الغرب، نظرية الصهاينة في التعاطي مع المعركة ممثلة في إطالة أمد المعركة التي تستنزف كل خصومهم (سوريا كدولة محورية، إيران، حزب الله، ربيع العرب، مع خلق فتنة سنية شيعية).
25/7/2013- العرب القطرية