سقوط حكم الحزب الديني .. عربياً ـ طلال سلمان
ليس أغنى من الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من تجربة تنظيم الإخوان المسلمين، الذي يرفض أن يصنف حزباً مفضلاً استخدام كلمة «جماعة»، في محاولة الانفراد بالسلطة في مصر التي بالكاد أكملت عامها الأول والذي سرعان ما صار «الأخير».
لقد ثبت شرعاً، أن الشعوب العربية، شأنها شأن سائر الشعوب في أربع رياح الدنيا، لا تقبل تفرّد حزب واحد بالسلطة، كائنة ما كانت تضحياته في العمل الوطني، من أجل الاستقلال مثلاً، أو غنى تجربته في العمل السياسي، كما أنها لا تقبل ادّعاء أي حزب أو تنظيم بأنه الممثل الشرعي الوحيد، ولا هي تقبل مزاعم أية جماعة أنها الأعظم إيماناً ومن ثم التقدم إلى تمثيل الجماهير بذريعة أنها وحدها المؤهلة لأن تعلّمها أصول دينها ـ وهي مكتوبة بالأساسيات منها والتفاصيل ـ أو لأن تمنحها تأشيرات الدخول إلى الجنة.
من لبنان إلى سوريا فالعراق، وصولاً إلى اليمن، ومن تونس الانتفاضة إلى مصر ثورة الميدان، فإلى ليبيا التي لم يعرف شعبها العمل السياسي، وصولاً إلى المغرب العربي، لم ينجح أي تنظيم حزبي، وبغض النظر عن وهج شعاراته، في أن يحتكر العمل السياسي في أي قطر عربي إلا بمجازر التصفيات وبملء السجون وأقبية المخابرات بالمعارضين، من أعضاء الحزب الحاكم كما من أحزاب المعارضة.
من هنا إن «الحزب الحاكم» الذي غالباً ما قفز إلى السلطة من على ظهور الدبابات، وفي المشرق العربي قد اندفع إلى تمويه تفرده بجبهة وطنية أو تقدمية من بقايا الأحزاب التي كان لها تاريخها في العمل السياسي ثم خرجت إلى التقاعد لانفضاض الجمهور عنها بتأثير اليأس أو الخوف من مخابرات الحزب الحاكم الذي لا يقبل احتمال أن يكون له بديل أو حتى شريك، وإن قبل من أضاعوا حاضرهم ولم تتبق لهم قدرة على المنافسة أو التحدي في المستقبل.
أما الإخوان الذين لم يغادروا موقع المعارضة بالسلاح، وظلوا دائماً في حمى السرية وأقبية الغموض، متحصنين بحرفية النصوص الفقهية وادّعاء العصمة في الدين مع اتهام المنافسين، كل المنافسين، بالكفر، فإنهم لم يقبلوا مرة التحالف مع أحزاب أو تنظيمات أخرى، علمانية أو دينية الشعار، في جبهة سياسية ذات أهداف وطنية، ولو انقلابية، أو ذات طموح مشروع إلى التغيير بالديموقراطية… وإن كانوا قبلوا أن يستدعيهم الحاكم، سواء أكان أنور السادات أم خلفه حسني مبارك، إلى مشاركة شكلية في مواقع هامشية من نظامه، للإفادة من شعاراتهم الدينية في إظهار معارضيه ككفار ومشركين لا بد من استئصالهم ليخلص الحكم للرئيس المؤمن أو لخلفه الذي اختير بالمصادفة فحكم المحروسة لثلاثين عاماً طويلة ذهبت بكرامة مصر والمصريين..
لقد عامل الإخوان أنفسهم على أنهم الإيمان كله، في حين أن الآخرين، عموم الآخرين، من الكفار، أو هم على حافة الكفر، اللهم إلا إذا هم اتخذوا من «الإخوان» إماماً وقائداً ومعلماً وسلّموا له بالحق في الحكم المطلق باعتباره منحة إلهية.
.. وها هم الإخوان في مصر يحاولون تدمير وطنهم لأنهم خسروا الفرصة القدرية التي جاءتهم بها المصادفات وتنافر القوى المنافسة على حكم مصر.
إنهم لا يرون عشرات الملايين التي فاضت بها الميادين في القاهرة والإسكندرية وسائر المدن في مصر، وصولاً إلى الصعيد الجواني فضلاً عن السواحل عموماً.
هي «مؤامرة» أتقن حبكتها الكفار بالتواطؤ مع الخارج، أي خارج في معسكر الكفر والشرك بالله (مع استثناء الأميركيين والغربيين عموماً وإسرائيل..)، ونفذها الجيش بشخص ضابط مغرور ينظر إلى نفسه على أنه واحد من صنّاع التاريخ، بينما هو لم يخض حرباً وليست له تجربة ولو محدودة في العمل السياسي عبر حزب أو تنظيم، أي حزب وأي تنظيم!
كيف لحزب وصل إلى الحكم بالمصادفة القدرية، أن لا يحتاط لاحتمال فقدانه هذه الفرصة، التي ثبت بالتجربة الحسية أنه ليس مؤهلاً بما يكفي لاغتنامها من أجل إثبات جدارته بها، خصوصاً وقد عمد ـ بالقصد ـ إلى استفزاز كل القوى الأخرى، تلك التي ملأت «الميدان» بجماهير الثورة ضد حكم الفساد ممثلاً بحسني مبارك وعائلته
وشركائه، فانكشف استعجاله وتلهفه إلى احتكار السلطة، بمختلف مواقعها، حاشراً فيها من والاه ونصره بغض النظر عن كفاءته أو جدارته بأن يتولى موقع القرار في إدارة عريقة كالتي تميز مصر كدولة عن سائر الدول في المنطقة العربية وأفريقيا ومختلف أنحاء العالم الثالث… متجاهلاً أن ملايين الميدان لما تنصرف ولما تندثر ولما يتفكك جمهورها الذي قام بالثورة من أجل استعادة دولته وليس من أجل تقديمها غنيمة للإخوان.
إن من لا يعرف أن يخسر لا يمكنه أن يحافظ على ربحه، أو غنائمه في حالة الإخوان المسلمين… من هنا اندفاع هذا التنظيم الذي رفض صيغة الحزب كمؤسسة معروفة القيادة والهياكل الناظمة للقاعدة، إلى لعبة القمار الدموية تحت إشراف رجال دين طامحين إلى القيادة بأي ثمن كالشيخ القرضاوي فضلاً عن رجال الصف الأول من الإخوان، والذين بلا تاريخ يعتد به، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الوطن ودولته جميعاً.
ولعل من حسن حظ مصر، وسائر الدول العربية، أن تنتهي تجربة الإخوان في الحكم ومعه بهذه السرعة، وبهذا القدر المحدود من الخسائر في الأرواح والممتلكات، لأن استمرارهم في السلطة لفترة أطول كان سينتهي بكوارث أبسطها مسلسل من الحروب الأهلية التي لا تنتهي.
ويبقى أن تتصرف القيادة الجديدة التي استولدتها الثورة بما يحمي العهد الجديد، وذلك عبر جبهة وطنية عريضة تضم كل القوى الوطنية والكفاءات المميزة التي تزخر بها مصر والتي أسهمت في بناء العديد من الهياكل القيادية والإدارية في العديد من البلاد العربية بينما حُرمت من الإسهام في بناء وطنها، مصر المحروسة.
السفير 29/7/2013