«ثلاثة وتسعون» لفيكتور هوغو: شرعية الثورة في أخلاقياتها ـ ابراهيم العريس
«ولدت لكي تختمي الأزمان التي خرج منها آلنا، أنت التي بالرعب انقذت الحرية/ أنت التي تحملين هذا الاسم المعتم: حزورة/ في التاريخ الذي تبرقين فيه مثل القرن المشتعل، تبقين وحدك الى أبد الآبدين، عملاقة الثلاثة والتسعين! ولا شيء على ضخامتك لن يأتي أبداً من بعدك…». بمثل هذه العبارات عرف فكتور هوغو، في العام 1853 كيف يمجّد الثورة الفرنسية، من خلال أحداث العام 1793، منشداً اغانيه انطلاقاً من منفاه مندداً بنابوليون الصغير. في ذلك العام كان هوغو قد صار من أنصار الجمهورية ومن أصحاب الحنين الى زمن الثورة. هو الذي كان قبل ذلك بنحو ربع قرن من أنصار الملكية وعودتها المتحمسين. صار من الكاتبين دفاعاً عن كل أولئك الذين في رأيه، كانوا على حق حين ناضلوا ضد همجية الثورة والإرهاب الذي خلقه الثوار، ولا سيما في منطقة الفاندي، في الغرب الفرنسي حيث، غير بعيد من بريطانيا على المقلب الثاني من البحر، كان الناس الأشد عداء للثورة ينتشرون. ولسوف يواصل هوغو، خلال ربع القرن الأخير من حياته تمجيده للثورة، دون أن يعبأ بماضيه… ولكنه في أعماله الأخيرة – على الأقل – حرص على أن يكون أكثر عقلانية، وأكثر ميلاً الى التحليل منه الى التمجيد. ففي ذلك الحين لم تعد المسألة لديه مسألة أسود وأبيض، أو معركة الخير ضد الشر. ولعل العمل الذي يبرز هذا من بين أعمال فكتور هوغو الأخيرة المنتمية الى هذا «الفكر العقلاني»، روايته التي يرى الباحثون والنقاد انها كانت الأخيرة بين أعماله الكبيرة. ونعني بها رواية «ثلاثة وتسعون» التي نشرها في العام 1872، أي قبل أكثر من عقد بقليل من رحيله.
> اليوم قد لا تكون «ثلاثة وتسعون» الرواية الأشهر بين أعمال هوغو. غير انها بالنسبة الى الباحثين الأكثر جدية، العمل الأهم من الناحية الفكرية. ويعتبرها الباحثون رواية الشيخوخة الواعية التي ترينا كيف ان فكتور هوغو قد عرف في آخر سنوات انتاجه الكبير «كيف يصفّي أسلوبه ويحدد صيغه الكتابية، من دون أن يفقد أعماله أي جزء من قوتها الدرامية». إن ما نراه هنا في هذه الرواية هو نظرة التأمل العميقة في نص «يضع حتى ضروب أريحية الإنسان في تناقض مع بعضها بعضاً». ونعرف، طبعاً، ان فكتور هوغو قد اعتبر دائماً، وفي أعماله كافة، ان الإنسان كائن طيب في سريرته. بحيث ان الشر لا يمكن ان يكون بالنسبة اليه مناخه الطبيعي، بل هو «مجرد نزعة قدرية يتوجب عليه ان يتماشى معها بشكل غامض، حمل يتوجب عليه ان يتخلص منه متطهراً بعد معاناة طويلة». وفي هذا الإطار قد يكون من المفيد بشكل أساسي قراءة «ثلاثة وتسعون» لمن يود أن يتحرى حقاً، هذا التعبير، في عمل هوغو ككل.
> تدور أحداث «ثلاثة وتسعون»، (التي كان همّ هوغو الرئيسي فيها ان يبرهن على ان الحرية لا يمكنها أن تبزغ إلا من قلب المحن الضرورية)، في منطقة الفاندي. أما شخوص الرواية الأساسيون فهم الجنود الثوريون المستعدون دائماً للموت من أجل نصر قضيتهم. ومن بين هؤلاء الجنود، بل في مقدمهم ، لدينا العريف الشجاع رادوب. وفي مقابل أولئك الجنود الثوريين، لدينا الفلاحون من أهالي الفاندي، أنصار الملكية، من الذين يصمدون هم بدورهم في صلابة من أجل الدفاع عن قضيتهم وإحراز النصر، وعلى رأس هؤلاء هناك قائدهم ايماموس العنيد والمتعصب. أما الزعيم الكبير للبيض فهو المركيز القاسي والعجوز لانتياك. والمشكلة بالنسبة الى هذا المركيز هي ان قريبه الشاب غوفان، قد انتقل الى صفوف الثوار بحماسة شديدة. وإلى جانب هذا الشاب الثوري هناك سيموردان، الأستاذ والراهب السابق، الذي أصبح متساوقاً الآن مع مبادئه التي، لنزاهته، لا يمكنه ان يحيد عنها أبداً… لذلك يمثل هنا ما يبدو أنه الضمير الذي لا تهزه الأحداث ولا يتأثر بصغائر الأمور.
> وفي ظل هذا المناخ، هناك طبعاً الثورة التي هي محرك الأحداث ودافع الشخصيات الرئيسي. بيد ان الثورة ليست هنا محور اللعبة والصراع الوحيد. ذلك ان «الشوان»، أي المنتفضين ضد الثورة والجمهورية ساعين الى اعادة الملكية، كانوا قد دأبوا منذ فترة على اختطاف الصغار من احضان اسرهم وأمهاتهم لتحويلهم الى جنود ووقود في الصراع. وها هن الأمهات يبحثن اليوم عن فلذات أكبادهن تساعدهن على ذلك، اللجان الثورية، التي تتبنى القضية تماماً، مثلما كانت تبنت أولئك الصغار. وإذ تدور الرواية من حول هذه القضية بالذات، يحدث للانتيناك، الرجعي وزعيم أنصار الملكية، أن يسعى الى انقاذ الصغار من الموت، تماماً كما سوف يفعل لاحقاً، المدعو شندلر في الفيلم الذي حققه ستيفن سبيلبرغ بعنوان «لائحة شندلر». وإذ يساعد لانتيناك الثوار في مهمتهم، الإنسانية، وهو المعادي لهم أصلاً، يتمكن من الحصول على العفو إذ جرى غضّ النظر عن جرائمه السابقة كلها، وبقي منه ما صنعه من خير عميم. واللافت هنا أن لانتيناك، حين يقوم بإنقاذ الصغار، يعرف أن مصيره سيكون القبض عليه وقتله، ومع ذلك نراه لا يتردد. وحين يقبض عليه الثوريون، يصرخ به سيموردان، الذي صار الآن مفوضاً سياسياً ينطق باسم الثورة: «انني أقبض عليك» يجيبه المركيز بكل هدوء: «وأنا أوافقك على ذلك». ثم يحدث خلال الليلة التي تسبق تنفيذ حكم الإعدام بالمركيز، أن يتسلل غوفان، قريبه، الى زنزانته، محاولاً ان يجبره على الفرار ويتمكن من اقناعه بذلك، لاحقاً، إذ يقبض الثوريون على غوفان وقد افتضح أمره، وحكم هو الآخر بالإعدام، يتضرع الجنود الى سيموردان لكي يعفو عن غوفان، لكنه لا يستجيب لتضرعهم. أما حين تهبط شفرة المقصلة فوق رقبة غوفان، فإن رد فعل سيموردان يكون بقتل نفسه برصاصة مسدسه. وهكذا يتمكن فكتور هوغو عبر تصويره الغريب والعامر بالدلالات في الوقت نفسه لمصائر هؤلاء الرجال الثلاثة، يتمكن من تصوير ما آلت اليه الثورة نفسها، وفي منطق لا يخلو من تفهم وتبرير: إذ ها هو كل من الرجال قد قام بما كان ينبغي عليه، أصلاً وانطلاقاً من مواقف الشرف، أن يقوم به. وها هو مصيره، ومن دون مبالغة في أية اندفاعة درامية، يتحدد بناء على ما فعله. لقد أنقذت سمعة الثورة، على رغم كل ما كان منها، عبر النزاهة التي أبداها بعض أبنائها، حتى ولو أوصلتهم نزاهتهم الى الموت… هم الذين لا يتصرفون إلا انطلاقاً مما تمليه عليهم ضمائرهم وحدها، سواء كان فعلهم خطأ أو صواباً، في نظر محيطهم، أو حتى في نظر التاريخ نفسه. فهل معنى هذا أننا أمام رواية تبريرية؟ ان قراءة سريعة وأولية لـ «ثلاثة وتسعون» قد تقترح علينا هذا… لكن جوهر الرواية يعدل الأمور الى حد كبير.
> في هذا الإطـــار لا بد أن نشير الى ان فكتور هوغو (1802 – 1885) حين كتب «ثـــلاثـــة وتسعون» كان يناضل بكل قوة ضد اي حكم بالإعدام، ولا سيما مـــن خــــلال مطالبته السلطات بالعفو التام عن مناضلي كومونة باريس، التي تقف – أكثر من الثورة الفرنسية – في خلفية تفكـــيره وكتابته هذه الرواية. ولم يفت هوغو أن يقول بعدما طرحت عليه أسئلة كثيرة من حول روايته تلك انه انما شاء منـها أن تعبر عما يمكن اعتباره جدلاً حقيقياً: ان النور لن يأتي إلا بازغاً مـــن قــلب الظــلام وحده… وهذا وحده يمكن ان يسمح لنا بأن نأمل بالوصول الى مجتمع مثالي تتساوق فيه أفكار الناس مع مبادئهـــم وأفعــالهم. وفي هذا الإطار مهم ان نسمع غوفان في محادثته الأخيرة، قبل اعدامه، مع سيموردان يتحدث عن مجتمع طوباوي تسوده المساواة، كبديل لمجتمع البراغماتية الثورية.
> والحال ان قراءة لبعض أفضل وأهم أعمال هوغو (مثل «البؤساء» و«آخر أيام محكوم» و«عمال البحر») يمكن ان تضعنا ومنذ وقت مبكر في صلب هذه الإشكالية التي لا تزال حتى اليوم قائمة في المعارضة بين الشرعية الثورية والمثالية الأخلاقية.
الحياة ٩ أغسطس ٢٠١٣