نار الثورة وأجنحة الإمام ـ المثنى الشيخ عطية

مقالات 0 admin

الإمام الأسطوري، الغائب، الحاضر، المنتظَر، الذاهب والراجع في صورته، الأول، والثاني، والسابع، والثاني عشر، وما يُبتكر لأيام قاسية تأتي، الباعث للإلهام بأسطورته، الممتد رجوعاً حتى منبعه في آلهة الخصب، المُغرب والمشرق بمسيح خلاص الإنسان، الواصل والفاصل في حلم المهديّ.

والإمام الواقع: المكتمل بمآسي الشهداء، الناقص بمهازل أسماءٍ تبدأ من أدونيس إلى آيات الله، إلى الوليّ الفقيه، إلى الأب القائد، البطريرك، المرشد، الأمير، الظواهري، البواطني، ابن فلان وأبي فلان، البغدادي، الزرقاوي، الشامي، المصري، الحلبي، اليمني، الغزاوي، الجولاني، وما أنتج تاريخ التأليه من الألقاب، المختال أمام الكاميرات بريش حقيقته الواحدة بذهنه، المهزوم بنصر الله، الضائع في أوهام خطيب الجامع، الزائد في القطب الناقص للديموقراطية، والمنتصر بطفل يحمل لافتة مكتوباً فيها: “العار لمن لا يرمي السلاح أمام الأطفال”.

الإمام، الإمام، أسطورياً وواقعاً، دافعاً للأمام وساحباً للخلف، هو مشكلة تاريخ وواقع المجتمعات العربية في جفاف صيفها، صقيع شتائها، اصفرار خريفها، وفي اخضرار ربيع ثوراتها كذلك. الإمام مشكلة السياسة والاقتصاد بجعله العبيد يَذبحون العبيد من أجل إمام بعيد، الإمام مشكلة الإنسان بجعله القريب يذبح القريب من أجل إمام غريب، الإمام مشكلة الإنسان الذي يواجه طبيعته المزدوجة في سعيه المميت المحيي نحو التوحد والخلود.

¶¶¶

على إيقاع صوت المغنّي إبرهيم قاشوش الذي حطم رمزية تقديس الديكتاتور بالسخرية من لفظه لحرف “إس”، في التظاهرات الجديدة التي تستعيد زخم التظاهرات الأولى كي تؤكد جوهر الثورة الشعبي بين تعدد أشكال فرقها المسلحة. وعلى وقع ارتطام جبهة الديكتاتور/ مسخ الإمام، الأب القائد المؤلّه حافظ الأسد، هاوياً، بحافة سور صنمه في الرقة كأول مدينة محررة. وفي انعكاسات تجربة الثورة المصرية السريعة المارة بعنق زجاجة الثورة المسروقة، والمتكشفة عن شخصية مسخ الإمام/ الإخواني، ممثلاً بالرئيس كشخصية هزيلة مخادعة حتى في المعتقد وفي السياسة وفي الاقتصاد، ومخادعة حتى في السيرة الذاتية وفي تكلم اللغة وفي التعامل الديبلوماسي الأخلاقي، والقذرة حتى في رائحة الجسد كما نقلت ذلك وسائل الإعلام، وتحدّث في ذلك ساخراً كاتب وقور مثل عزت القمحاوي. تستبق الثورة السورية لحظة تكشّف مسوخ الإمام من سارقي الثورات، قبل انتصارها، ربما لكونها دفعت ذلك مسبقاً من دماء شبابها ودموع صباياها، لتطلق بعمق تكشفات هذه الشخصية في مرآة الذات السورية، وأكثر من ذلك ببسط أجنحة هذه الشخصية وإطلاقها للتحليق أمام نار الثورة. ويشهد السوريون في ذلك منذ بدء تشكيل “الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة”، إلى جانب رؤيتهم مسوخاً: إمام المقاومة الشيعية المخادع الملطخ بدماء أطفالهم، وإمام النصرة السنية الموسوس بتحجيب نسائهم ورجمهن، وأئمة المؤسسة الوسطية السنية السلطانية المحتارة بين بندقية الثائر في خلع الوالي ونشّاشة ذباب الترحم على شريك القاتل البوطي المفتي ببقاء الوالي مهما قتل من البشر طالما هو لم يكفر بالله جهاراً ونهاراً، وإمام الإصلاحيين الحواريين من العلمانيين المبارك ممانعة “حزب الله” الطائفي، الحامل صليب لعنة طرد الأرواح الشريرة في “الإخوان المسلمين”، والمرتبك من رائحة الدم التي تفوح من مائه الذي يصب دائماً في طاحونة النظام باعتباره إمام الحوار بين المعارضة والنظام. يشهد السوريون في لحظات انسداد وإبداع انفتاح واقعهم شخصية الإمام الواقعية الواحدة المتعددة بغنى ترك هذه الشخصية أمام مصائرها المقدّرة لضرب الأمثال، إما ببقائها في شكلها الكوميدي الفايسبوكي التافه ورميها في إحدى سلال التاريخ أو انقسامها عن هذا الشكل إلى شخصية تراجيدية تكرر مأساة الإمام الشهيد بمأساة أو بمهزلة، أو إلى شخصية ممتحنة تكرر مأساة أبي عبدالله الصغير أو ياسر عرفات على سبيل المثال، ولكن في كل الأحوال، ببسط أجنحة هذه الشخصية على الرخام الممتد من باب حوار ماهيتها داخل الذات السورية إلى باب توديعها بأنخاب فصل الدين عن الدولة، على خفق أجنحة القلوب التي تهتف للحرية والكرامة في التظاهرات المستعادة، وينبت دائماً على امتدادها عشب ما قدمت لأجلهما من شهداء.

¶¶¶

على إيقاع صوت السخرية من التقديس، ووقع صورة ارتطام جبهة المقدس بسور صنمه في أول مدينة محررة، تجلّت شخصية مسخ الإمام الواقعية المنتخبة في الجوهر من قبل اللحظة التاريخية التي تبدعها الروح العميقة للشعب عادة في انتخابها لأنبيائها، لصوصها، طواويسها، وضحاياها كذلك، في لحظة اكتمال ضيق نفق الموت من أجل انفتاح الحياة، بشخصية رجلٍ تجتمع فيه كل متناقضات أئمة الواقع، رجل محيّر محتار ويقيني في الوقت نفسه، سياسي ولا سياسي، ثائر ولا ثائر، مؤسساتي ولا مؤسساتي، بسيط ونخبوي يحلو له أن يشبّه نفسه بالإمام مالك في تلوين خطابه للناس وفقاً لدرجات معرفة الناس وجهلم، رجلٍ قادمٍ من مؤسسة الإمامة السنية السلطانية ودارسٍ للعلوم، تلميذٍ متمرّد ومنضوٍ في الوقت نفسه بمدرسة البوطي، إمامِ جامع ورجل شركة، رجلٍ لم تمضِ أيام من دهر تعيينه باتفاق المختلفين رئيساً للائتلاف إلا وتجلّى إماماً للاختلاف، ضمن قوى الثورة وخارجاً عن محددات الثورة، رجلٍ يخيف السوريين حين يطالب برحيل بشار الأسد الذي نزعت الثورة شرعيته بإصرار، ويعيد إليه الشرعية في الوقت نفسه بتسميته له بالرئيس ودعوته للتفاوض شخصياً في مناظرة تلفزيونية، ورجلٍ يُطمئِن السوريين حين يقف ضد تنظيم “القاعدة”، ولكن ليخيفهم أكثر حين يواجه فكر “القاعدة” بفكر الإسلام السني الشامي الوسطي، هو نفسه الذي تناغم كما خبروا مع استبداد حافظ الأسد وثبّت هذا الاستبداد حتى في ثورته عليه، وهو نفسه المرتبك المتأرجح ما قبل الثورة في تجميد معارضته للنظام، وما بعد الثورة في عدم حسمه الموقف من ماهية الدستور وشكل الدولة، رجلٍ منتخب لحلّ مأزق الصراع وإذابة جماد التوازن بين الشعب والنظام من قبل المخططين لتأزيم الصراع، الأميركيين، الروس، الإيرانيين وتوابعهم من هيئة التنسيق وأقطاب الأقليات بمختلف مسمياتهم، ومنتخب أيضاً من قبل قوى الثورة الإسلامية والليبيرالية والعلمانية والسلمية بمختلف مخاوفها ورضوخاتها لضرورات التوافق، رجلٍ تطرح الثورة ببسط أجنحته في هذه الصورة على نفسها أحد أهم أسئلتها التاريخية الجوهرية المتعلقة بماهية نتائجها: الدستور وأشكال الحكم، الدولة الدينية، والدولة الهجين، والدولة الديموقراطية، لتطرح على الذات السورية معالجة حياة ذلك الشخص الصغير الكامن في داخلها/ الإمام لا غيره بصوره المتعددة الأسطورية والواقعية التي ترتاح بها النفس وتحلّق وفقاً لما تم حقنها به من أوهام.

¶¶¶

على إيقاع صوت السخرية من التقديس، ووقع صور تحطم المقدّس، مع رفع لافتات الثورة المحددة لمسارها في التظاهرات المستعادة كأساس لتأكيد شعبية الثورة ضمن تعدد كتائبها المسلحة في جيشها الحر، والراقصة بوضع السوريين أياديهم على أكتاف بعضهم البعض محلقين في سماء المعنى كالنسور. يبسط السوريون أجنحة أئمة الواقع التي تحاول تكريس ذاتها في ذواتهم، ليختبروا أوهام ملكية الحقيقة، وأنانيات الاستئثار، وجرائم الإقصاء، وضرورة الحرية والعدالة والإخاء والمساواة في المواطنة من دون تمييز في الدين والمذهب والقومية والجنس واللون، ليحرروا جوهرهم، من قيود استبداد تفسيرات الأئمة المتعددة المتضاربة والمجدولة بمصالحهم المختلفة الضيقة واستيهاماتهم المريضة، ليحرروا الأكثرية من إثمها في ظلم الأقلية، والأقلية من أوهام خوفها من الأكثرية، ليحرروا الإنسان فيهم من عبء أقنعة الجلاد والضحية. ويقرّب السوريون أجنحة أئمة الواقع الإيكاروسية لاختبار شمعها على نار معاني الحرية والكرامة في ثورتهم، وعلى محددات هذه الثورة التي تكرّست بدماء شهدائها على مدى أكثر من سنتين، في محددات الائتلاف كما في اتفاقات شرف مؤتمر القاهرة كما على لافتات كفر نبل كما على الرايات كما على البنادق، لا حوار مع النظام ولا حوار مع سفاحيه، إسقاط النظام بكل مكوّناته، دعم “الجيش الحرّ” لتحرير كل شبر في الأرض السورية من كل رجس، وبناء الدولة المدنية التعددية الديموقراطية من دون لبس.

2013-04-27 النهار

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة