في الجدل المثار مجدداً حول تعبير ”العلمانية“

بعد صدور وثيقة المبادئ الخمسة، أثير جدل واسع بسبب ورود كلمة ”العلمانية“ في مقدمتها …
وكمقدمة لابد منها، يمكن القول أن كثيرون قد سعوا لتمييز الامة (الاسلامية أو العربية أو السورية أو …)  في ضرب من النزعة الاسلاموية …القومية …أو الوطنية المطلوبة أحياناً ولكن بقصد تمييز مجتمعاتنا عن غيرنا من شعوب العالم والغاية البائسة كانت بالرغبة في شيطنة “العلمانية” وكل معطى حديث يتجاوز الاديولوجيا القومية او الاسلامية وحصر مفهوم العلمانية بالرد على الكنيسة في الغرب وأنها برانية، لا تناسب بلداننا الاسلامية حسب زعمهم، متغافلين أن “العلمانية” هي مفهوم سياسي كلي يعبر عن دنيوية الدولة ودنيوية وظيفتها، وهكذا في محاولتهم التهرب من استحقاق العصر المتمثل بضرورة قيام الدولة العلمانية الديمقراطية التي انتهجتها معظم المجتمعات الحديثة وكانت سبب رفعتها وتقدمها -بالطبع ليس فقط الأوربيين والغرب من انتهج العلمانية، بل انتهجتها عديد دول آسيوية وأفريقية تمثلت العلمانية والديمقراطية منها فنهضت وتجاوزت تأخرها كالهند وكوريا الجنوبية واليابان وجنوب أفريقيا فضلاً عن تركيا وماليزيا وأندونيسيا وغيرهم- وهنا بيت القصيد، وما الهروب من هذا الاستحقاق إلى عبارات ومصطلحات -كالدولة المدنية ، التعددية…الخ إلا بؤس أو تحايل ومسايرة- لكن الواقع أجاب على أولئك ببساطة أن حاجات الأمم والمجتمعات الإسلامية ومسارات دولها لا يمكننا تفريقها عن حاجات ومسارات بقية شعوب ودول العالم.
مع إدراك القاصي والداني بأن المجتمعات الإسلامية نفسها تنوعت واختلفت ولم تعد تشكل كياناً موحداً يمكن تمييزه تماماً عن بقية الشعوب في العصور الحديثة. وراحت الشعوب والمجتمعات والحضارات تتأثر ببعضها البعض وتتشابك في الجوانب الثقافية والاقتصادية والسياسية. حيث يمكننا بدون تردد اليوم وصف العالم بأنه بات قرية صغيرة لأسباب عديدة ليس أقلها:
آ – الاجتياح التكنولوجي: سيما تكنولوجيا الاتصالات والتحكم، فالتواصل والتبادل الثقافي والاقتصادي بين البلدان أمسى متاحاً يسيراً وضرورياً وفق بروتوكولات تجمع العالم، فضلا عن السوشال ميديا والتطبيقات العالمية التي تملئ شاشات الموبايلات واللابتوبات بين أيدي الأفراد والمؤسسات حول العالم.
ب – الاقتصاد العالمي: حيث تكونت شبكات وشركات ومجموعات اقتصادية عالمية متشابكة تجعل البلدان مترابطة اقتصاديًا وتمر بنفس الطور أحياناً بشكل لا فكاك منه.
ج – الهجرة والتنقل واللجوء: راحت هذه تسهم في تبادل الثقافات وتعزز التفاعل بين الشعوب، وقد توحد تطلعاتهم الثقافية قريباً رغم اختلاف الايديولوجيات المستحكمة فيهم وتنوعها.
د – التحديات الكونية: كتغير المناخ والصحة العامة والأمن الغذائي، التي أجبرت البلدان على التعاون والتحدث بصوت واحد للتعامل مع هذه التحديات.
أما عن زوبعة وثيقة المبادئ الخمسة ….
عفواً شيخنا الجليل ”أحمد الصياصنة“ الذي نحترم ونقدر..! فأنت تمثل نبض الشريحة الواسعة من ثورة السوريين التي انطلقت من المسجد العمري في مهد الثورة درعا وسهل حوران منذ آذار ٢٠١١ ….!
عفواً ..! لم تكن ”العلمانية“ مسبة أو مساً شيطانياً إلى هذا القدر، كي تجعلك وآخرين تستنفر بوجه ورودها في مقدمة وثيقة سورية أقل ما يقال عنها بأنها جامعة بمبادئها، وكنت أنت قد اتفقت مع السوريين عليها وعدت لتسحب توقيعك عنها، وعسى أن يسمح تبصرك المعهود ليضع العبارة في نصابها كما فعل شيخ جليل مثلك في جبل حوران يدعى ”حكمت الهجري“ منذ مطلع حراك السويداء الجديد والمجيد.. وكما نظِّر مجددون كثر من العلماء والمشايخ المسلمون والعرب منذ عقود.
ولتسمحوا لي بالسؤال: لماذا هذا الصخب الذي عقب صدور وثيقة المبادئ الخمس؟ وأن يصدر صخب محزن عن فريق واسع من نخبة الثوار السوريين العقلاء أو المعتدلين وليس فقط عن متشددين أو متطرفين منهم، كانوا قد سرقوا الثورة وقلبوا طابوراً وقوى أمر واقع وفصائل في الثورة المضادة، هجوم على صيغة ”الدولة العلمانية“ التي يقرون بأهميتها لكنهم يخشون نطقها صراحة، في تلاعب على المصطلح أو مسايرة جلية لخطاب الاخوان والمتأسلمين ويكتفون بعبارات وكلمات تشبهها وتقربنا منها، بدل التصريح بها كمصطلح سياسي دقيق وجزل قاطع ومعبر عن جملة من القيم والمضامين المحددة والتي جربت في المجتمعات المعاصرة.
فلقد بُنيت العلمانية على مبادئ العقلانية، والفلسفة، والعلم، ولم تكن إيديولوجيا أو حكراً على الأقليات واللادينيين، فهي منهج حياة للمجتمعات المعاصرة حيث تعتمد على الدراسة العلمية والتفكير النقدي بفهم العالم وتنظيم المجتمع بما يجيب على أسئلة الواقع من الواقع ويلبي احتياجات الناس الدنيوية دون الغرق في الماورائيات ومقدسات الدين بل بفهمها واحترامها وقبول التجدد وتطوير الحلول كي تستجب الى المتطلبات والمتغيرات.
وتأتي الليبرالية كبنت للثورة الديمقراطية لتنجدل بعلاقة وثيقة مع العلمانية، حيث تعتمد على مبادئ الحرية الفردية والمساواة والعدالة، وتؤمن بحقوق الإنسان وحكم القانون. وبما أن العلمانية تحقق فصل الدين عن الدولة وتعزز الحرية الدينية والفكرية للأفراد، فالليبرالية تدعم بشكل كبير فكرة العلمانية كجزء من حماية حريات الفرد وتعزيز التنوع والتعددية في المجتمع، ويلتحق بها بالطبع مفهوم المواطنة المتساوية ليعزز العدالة بين الجميع والمتنوعين في دولة ما.
صديقي المتنور الذي يخجل من المجاهرة بمصطلح العلمانية بحجة عدم نضج الظروف المحلية للتعبير بها، صحيح أن تطبيق العلمانية في المجتمعات العربية والإسلامية أمر معقد، بسبب العوامل الثقافية والدينية والتاريخية المتنوعة فيها. وعليه وجب أن يتم تناول تطبيق العلمانية بحساسية واحترام للتنوع الثقافي والديني ولا يعتقدن أحد بسهولة هذا الامر، لكن على النخب الفكرية والسياسية الوضوح والافصاح عن حقيقة العلمانية وعدم تدوير الزوايا بغرض تمرير الفكرة على المجتمع المسلم السوري مواربة، بل علينا نطق الحقيقة التي تحترم عقول المتلقين والدفع بالحوار والنقاش الى أقصاه بالافصاح عن “العلمانية الديمقراطية” وهي التي تحترم الاديان والاختلاف معاً، وليس التحايل على ذلك المصطلح بعبارة ”المدنية أو التعددية“ التي لا محل لها بالمصطلحات السياسية الحصيفة، فكلمة “العلمانية“ تختصر صفحات من الشرح والتعبير لما تحويه من شمولية التعبير عن قيم وأدوات الدولة العصرية. ويمكننا دوماً الاستشهاد بالمجتمعات العربية والإسلامية التي اتخذت عناصر كثيرة من العلمانية في تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية، مثل فصل الدين عن الدولة وتعزيز حقوق الإنسان والحريات الدينية والفكرية واستقلال القضاء.
إن تطبيق العلمانية يتطلب دراسة مستفيضة للسياق الثقافي والتاريخي والسياسي لكل مجتمع، ويجب أن يتم بمشاركة المجتمع المعني وباحترام قيمه وثقافته، وبشفافية وصدق دون التذاكي اللفظي للتلاعب على المصطلح، والذي يمسي تلاعب على العقول في نهاية المطاف.
باختصار -وإن أطلت قليلاً- يتطلب تحقيق العلمانية في دولة معينة عدة تدابير، ليس أقلها:
١- إقرارها بالدستور والقوانين، إذ يتوجب أن تكون العلمانية جزءاً من الدستور والقوانين التي تحكم الدولة، وذلك من خلال فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية وتأمين حرية التدين والمعتقد والفكر.
٢- تعزيز ثقافة حقوق الإنسان: بما في ذلك حرية التعبير وحرية المعتقد والدين دون تمييز أو اضطهاد، وتبني ذلك بالاعلام والتعليم والصحة والاجتماع.
٣- تعزيز التعليم العلمي والتعليم العقلاني والتفكير النقدي في المناهج التعليمية، وتوفير بيئة تعليمية تشجع على الاستقلالية الفكرية والتحليلية والمبادرة.
٤- اتباع سياسات تعزز المساواة بين جميع المواطنين بوصفهم أفراد أحرار كرماء متساوون بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، وضمان عدم تمييز أحد على أساس الدين في المجالات الحيوية مثل التوظيف أو الحصول على الخدمات العامة.
٥- القضاء المستقل والمستقيم، وأن يطبق القانون بشكل عادل ومتساوٍ دون تمييز ديني أو عرقي أو جندري.
قد يستغرق تحقيق العلمانية وقتًا وجهدًا لامفر منه، ويتطلب التزاماً بقيم الديمقراطية ليس من الحكومة والمؤسسات فقط بل من المجتمع بأسره، سعياً لإدراك المواطنة المتساوية والعدالة وحرية التدين والاعتقاد واحترام التنوع والاختلاف.
علّنا نستخدم المصطلح -دون سوء نوايا- فنبتعد عن شيطنته ونكف عن الهروب منه كما فعل بعضهم عندما رد على مقدمة وثيقة المبادئ الخمسة، حيث لايختلف إثنان عما ورد بها من مبادئ، إلا أن كلمة ”العلمانية“ أيقظت -ولسوء حظها وربما لحسنه- ردود أفعال غريبة عجيبة ترفض الوثيقة وتنساق وراء منطق الاقصاء وخطاب الكراهية الذي لايبقي ولا يذر.
وسيم حسان- ٢٠-٤-٢٠٢٤

Loading

الكاتب wassim hassan

wassim hassan

مواضيع متعلقة

1 تعليق على “في الجدل المثار مجدداً حول تعبير ”العلمانية“”

اترك رداً