الافتتاحية: إدلب إلى أين؟
إدلب إلى أين؟
عن ماركس بتصرف: إن التاريخ يكرر نفسه مرتين، في الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة، ضارباً مثالاً على ذلك نابليون الأول ونابليون الثالث في فرنسا.
على ضوء هذه المقولة هل نستطيع – بما يكفي من التسامح الفعلي – أن نقارن بين ممارسة عبد الناصر في 9-10 حزيران عقب هزيمة عام 1967، حيث أكد على تحمله مسؤولية الهزيمة واستقالته من منصب الرئاسة وربما من أي منصب، نقول: هل نستطيع مقارنة ذلك بالمسرحية التي أعدّها وأدّاها أبو محمد الجولاني منتصف هذا الشهر الجاري، حيث أعلن عن رغبته قي التنحي عن قيادة المحرر-كما سماه- و باستعداده لدعم أي قائد أخر يختاره المجتمعون، الذين كانوا من كبار قادته العسكريين والمدنيين والشرعيين والعديد من الشخصيات الاجتماعية ذوي الحضور، وذلك على إثر الصراعات الداخلية والاعتقالات والإفراجات الأخيرة، وكذلك في أعقاب المظاهرات الاجتماعية التي انطلقت في إدلب وغربي حلب.
والآن ليس مستغربا أن يكون الجواب مبايعتُه بالإجماع بوصفه قائداً لهيئة تحرير الشام والمنطقة التي يسميها “المحرر”. وبعد هذا التمهيد نعود إلى الموضوع المطروح والذي هو ما حدث في إدلب مؤخراً، حيث تبلور اتجاهان واضحان بشكل عام داخل الهيئة، جناح متشدد يريد إعادتها إلى سيرتها الأولى من الناحية الفكرية والعسكرية والممارسة العملية، عبر إسقاط القيادة الحالية والتمسك بالمبادئ المُؤسِّسة وفتح الجبهات العسكرية والإشادة بالمقاتلين الأجانب، وعدم التنازل لإرضاء الغرب، والتنديد بالأصوات الوطنية التي دعت إلى وحدة الشعب وتجاوز فكرة الكيان الإسلامي السني، كما رفض هذا الجناح المتشدد وصف الذكرى الثالثة عشر للثورة بأنها ثورة كل السوريين. كل ذلك في مواجهة الجناح الآخر الذي يتقبل الطروحات الوطنية والاجتماعية والاقتصادية دون اعتراض من جهة أو تبنٍّ من جهة أخرى، والذي يدافع عن خطة الإصلاح على أمل إرضاء أوسع فئات من الذين شاركوا في الاحتجاجات، وتشمل هذه الخطة إصلاح مجلس الشورى في الهيئة وتوسيعه ليمثل شرائح أوسع، وتشكيل هيئة استشارية عليا من داخل المجلس وخارجه مختارة من قبله، ولجنة اقتصادية لبحث ومعالجة الحال المعيشية وتخفيف الضرائب وتخفيض الأسعار، وتشكيل ديوان المظالم والمحاسبة وجهاز رقابي أعلى وإعادة تشكيل جهاز الأمن العام، والتأكيد على تبعيته لوزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ، وتفعيل دور المجالس المحلية والنقابات المهنية….
إن هذه الإصلاحات -على الرغم من أنها ذات طابع تنظيمي وخدمي وشكلي ولا تطال المستوى السياسي في الجوهر-أي حضور سلطة هيئة التحرير وقيادة الجولاني- يمكن- كما يعتقد الجناح الإصلاحي أن تخفف من احتقان الوضع داخل الهيئة وخارجها، بل قد تُكسب قيادتها بعض الشعبية، على الرغم من أنها كما قلنا لا ترقى إلى المستوى الذي يريده الوطنيون، وبخاصة على الصعيد السياسي والمضمون الفعلي للانتخابات والمجلس والصلاحيات …. ناهيك عن أنها لا تستجيب بأي شكل من الأشكال إلى الجناح المتشدد الذي مررنا على ذكره قبل قليل، وعلى أن قرارات بعض هذه المجالس بما في ذلك مجلس الشورى غير ملزمة للهيئة، والآن وبعيداً عن الاسترسال في التفاصيل التي يمكن أن نستعرضها لاحقاً في مكان آخر، وعلى ضوء الملخص الذي ذكرناه حتى الآن: ما المخارج المرجحة للوضع في إدلب اعتماداً على السؤال العنوان الذي هو: إدلب إلى أين؟
والآن بوسعنا القول إنها؛ أي المخارج؛ تعود إلى الوضع الراهن وإمكانية تطوره أو تغير أدوار القوى الفاعلة الرئيسة في هذه المنطقة، والتي تتجسد في الدور الأمريكي وحلفائه، والتركي وحلفائه، والجمهور العام في المنطقة، والصراع الداخلي في الهيئة، والفاعل الخامس الذي يتجسد في غيابه لا في حضوره الإيجابي وهو عدم وجود بديل مقنع للجولاني، يحظى بما يكفي من الدعم داخل الهيئة وخارجها لدى الفواعل المذكورة قبل قليل. ولشرح ذلك نقول: على صعيد الفاعل الدولي الأساسي والذي هو أمريكا، من الملاحظ أنها لا تضغط على هيئة تحرير الشام على الرغم من تصنيفها وتصنيف مجلس الأمن لها كمنظمة إرهابية، وهي لا تريد الخلاص منها قبل وجود بديل أفضل، لأنها لا تريد إضعاف المنطقة أمام روسيا وإيران والسلطة الطغمة من جهة، وتركيا والمتشددين في إدلب وما حولها بما في ذلك داخل الهيئة من جهة أخرى.
وبهذا المعنى فإن الهيئة بقيادة الجولاني البراغماتية، والذي يحاول مسك العصا من الوسط عبر تحقيق توازن بين التشدد العقيدي الذي أشار إليه المذكور بعبارة “جهاد أهل السنة” والتأكيد في الوقت نفسه على الانفصال عن القاعدة، وحصر مهمته -على الأقل في الوقت الحاضر- داخل سوريا، نقول: بين هذا التشدد والبراغماتية الواضحة عبر الرموز التي رفعها من مثل؛ علم النجوم الثلاثة الحمراء وشعار ثورة لكل السوريين، وتحمل المظاهرات والكلام المقذع الذي وجّه له من مثل ” جولاني ولاك ما بدنا ياك”، بما في ذلك الاتهامات المشينة التي سمعها الجميع كما نعتقد وهذا يُحسب له (بصرف النظر عن موقفنا الرافض له، بل وللإسلام السياسي بغالبيته الساحقة).
ليس هذا فحسب، بل ربما كانت مسرحية الحديث عن التنحي ذروة هذه البراغماتية واللعبة السياسية، الأمر الذي لا يجعلنا نُرجّح أبدا ألا يكون الفاعل الدولي الغربي وبخاصة أمريكا حجرة عثرة أمام الهيئة بقيادة الجولاني الآن وفي الأفق المنظور للأسباب التي ذكرناها أعلاه، وفي هذه الحال فإن الفاعل الدولي المذكور بعيد جدا اليوم عن العمل لإسقاط الهيئة وقائدها، وسيظهر ذلك أكثر عند الحديث عن بنية الحركة الشعبية في إدلب المشتتة والمتنافسة والمتنازعة وبخاصة الجزء المضاد للهيئة والجولاني.
أما فيما يتعلق بالفاعل الإقليمي والذي هو بخاصة التركي ( لأننا نعتقد أن إيران والسلطة الطغمة وحليفهما الدولي روسيا وبعض العرب لا دور يذكر لهم في أحداث إدلب لا في داخل الهيئة ولا في الحقل العام ) فإننا نعتقد أن السلطة التركية على الرغم من رغبتها العميقة في إضعاف الهيئة – وقائدها الجولاني- لإضعاف الاستقلال النسبي الكبير عنها، وعلى الرغم من دعمها سراً وعلناً لخصومها وأعدائها – أي للهيئة- من مثل انتزاع *زكور* من الدورية الأمنية لهيئة التحرير، ودعم الجناح العسكري داخل الهيئة ضد الجناح الأمني إلى دعم الحراك العام في المنطقة، نقول: على الرغم من كل ذلك فإن السلطة المذكورة- التركية- ليست في وارد الإطاحة بالهيئة لغير سبب من بينها طبيعة علاقتها مع السلطة الطغمة السورية والفواعل الأخرى في المنطقة، ولمعرفتها ببؤس وضعف وتشتت الفصائل العسكرية الحليفة لها، ولأننا نعتقد أنه لن يطرأ تغيير فعلي -ناهيك عن تغيير نوعي- على الوضع الراهن في القريب العاجل، فإن السلطة التركية ستقبل بالحلول الوسط مع هيئة تحرير الشام كما هو عليه الحال حتى الآن، الحال التي يمكن تسميتها بزواج المصلحة والضرورة، الأمر الذي لا يطرح مصير الهيئة على جدول الأعمال من قبل هذا الفاعل الإقليمي الرئيسي.
أمّا على مستوى الفاعل الثالث وهو الحراك الجماهيري، فإنه منقسم -كما قلنا قبل قليل- ومشتت ومتنازع بين مؤيد لتركيا والجناح العسكري داخل الهيئة أو للجناح الأمني -جناح بنش- بالإضافة إلى أطراف أخرى مثل حزب التحرير الإسلامي، ومؤيد لبقايا الفصائل التي تمت تصفيتها على يد الهيئة، ولغالبية المُهجرين والنازحين الذين يعانون الكثير، وللفئات دعاة المطالب الاقتصادية والمعيشية، والنخب المطالبة بالإصلاحات الوطنية والاجتماعية، وفئات ذات مطالب خاصة كجماعة غربي حلب ومن أبرزها “الأتارب”، وبل فئات مؤيدة للهيئة نفسها. وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن الفاعل المحلي الثالث في المنطقة المعنية لن يكون من شأنه مرة أخرى اليوم وفي المدى المنظور وضع مصير الهيئة وقائدها الجولاني على محك النهاية.
أمّا فيما يتعلق بالفاعل الرابع الذي هو الصراع الداخلي في الهيئة، فإن من المعتقد أنه شديد التّأثُر بالفاعل الخامس السلبي، والذي يتجسد، حتى الآن على الأقل، في غياب البديل المناسب للجولاني، ليس هذا فحسب؛ بل إن الإجراءات التي اتخذها المذكور الجولاني- والتي بدأ بتنفيذ بعضها- لن تسمح لهذا الصراع بأن يأخذ مداه مرة أخرى في المدى المنظور داخلياً وفي علاقته مع الفواعل المذكورة.
الآن، وفي ضوء ما سبق، فإن جوابنا على السؤال العنوان هو ترجيح بقاء الحال في إدلب على ما هو عليه إلى حد كبير داخل وخارج الهيئة، مع قدر من الإصلاحات والترقيعات الشكلية – التي لا تطال حضور الهيئة في المنطقة- مع بعض التوتر والتململ، وبخاصة إذا تذكرنا الدور المعنوي والشعبي للمجلس الإسلامي السوري الذي يشكل خصمًا عنيدا للهيئة وذراعا مهما للسلطة التركية بشكل أو بآخر.
ختاماً نعود ونؤكد أن هذا المخرج المرجح، والذي يمكن أن يصبّ في مصلحته الأمرُ بوقف المظاهرات الذي صدر مؤخراً، يقوم على وقائع الوضع الراهن التي أتينا عليها باختصار شديد وأي طارئ فإنه يتعلق، كما أكدنا غير مرة، بتغير الظروف ومواقف القوى الفاعلة في المستقبل القريب أو المتوسط على الأقل.
تعقيب
قد يكون القيام ببعض العمليات العسكرية كما حصل- قبل أيام – بضعة أيام – ضد السلطة السورية سبيلاًً -مجرباً تاريخياً- لتوحيد الموقف إلى حد ما، داخل منطقة – المحرر- ولتخفيف الضغوط التركية والاجتماعية المحلية والدولية ـ ولثلم حدة الصراع داخل الهيئة، الأمر الذي سينعكس على تطور الأمور في المستقبل القريب.
“تيار مواطنة” مكتب الإعلام
* * * Apple iPhone 15 Free: https://betweenpercentages.pt/recrutamento/upload/go.php * * * hs=ec9d32de43142586a5599585e059f7b2*
24pw22