لن يتوقّف اليوم التالي عند غزّة
حتماً فوجئت إسرائيل بحجم الردّ على اغتيال محمد رضا زاهدي قائد عمليات فيلق القدس في سوريا ولبنان، في المبنى المجاور للسفارة الإيرانية بدمشق. كان ذلك أقرب إلى مستوى اغتيال الولايات المتحدة لسليماني منذ بضعة أعوام، الذي لم يكن الردّ عليه بمثل الشدّة الحالية. صحيح تلك كانت الولايات المتحدة وهذه إسرائيل، ولكنّ الأمور لا تختلف إلّا نسبياً وربما نوعياً. وكان ردّ الفعل الإسرائيلي قرب أصفهان استعراضياً: محدوداً جداً لكنه ذو مغزى وتعبير.
ليس صحيحاً أيضاً افتراض أن علاقة إيران بطوفان الأقصى، قد أقنعتها باقتراب يوم القيامة وتدمير إسرائيل، على الرغم من راديكالية العملية وتفوّقها بدرجات على عملية طريق الشاطئ قرب تل أبيب عام 1977، التي قادتها دلال المغربي، وأعقبها غزو جنوب لبنان والسيطرة عليه لأكثر من عشرين عاماً. ذلك الغزو في مارس 1978، والآخر الذي عزّزه وتلاه في سبتمبر 1982، ووصل إلى بيروت، أوقعا من الضحايا بين الفلسطينيين واللبنانيين عندئذٍ ما يقارب أو يزيد عن العدد الذي وصله عدد الحرب الحالية حتى الآن.
بنت إيران قدراتها وصناعتها العسكرية خلال عقود حتى الآن، معتمدة كما يبدو على مبدأ أن غزارة الإنتاج خير من التعقيدات التكنولوجية، خصوصاً في ظلّ الحصار والعقوبات. كان استعمال النظام السوري بغزارة للبراميل المتفجّرة البدائية التصنيع، مثالاً لنجاح ممكن أن تحققه نسبة معيّنة من القذائف، تستطيع الوصول إلى أهدافها من دون دقّة كبيرة. وصلت بضعة صواريخ إلى النقب وحسب، في حين تمّ تدمير البقية بنجاح واضح، لذلك معانٍ ومفاعيل مهمة بالتأكيد، سوف تنعكس – وربّما انعكست الآن- في انتقاء ردّ إسرائيلي محدود، لكنّه يحمل معاني ومفاعيل مماثلة أو أكبر. لا يمكن الجزم تماماً بكون القيادة الإيرانية قد هدفت إلى توجيه ضربة استراتيجية عنيفة بالفعل إلى أعدائها، واستثارة العنف المطّرد من خلالها، أو أنها تهدف إلى ما حدث فعلاً إلى هذا الحدّ أو ذاك، وتجبر الآخرين على الجلوس إلى المفاوضات بمساواة وتكافؤ أفضل مما سبق حتى الآن، حول برامجها وعقوباتها وتقاسم النفوذ في المنطقة.. معا!
سوف يكون ذلك منسجماً مع الضغط الغربي بقيادة الولايات المتحدة منذ بدايات الحرب على غزة، من أجل بلورة رؤية تتعلّق باليوم التالي لها، قبل تفلّت الخيوط وبعثرتها بين اللاعبين المختلفين بالحجم والموقف، بالاستراتيجية والتكتيك. فقد حققت الحرب حتى الآن أهدافاً عدّة، منها ظهور مقاربات لدى الأطراف العربية والفلسطينية أكثر اعتدالاً، يتملّص منه الطرفان المنخرطان مباشرة في الصراع حتى الآن: حماس وحكومة نتنياهو اليمينية المتطرّفة، لأنهما يخشيان أو يدركان أن دراسات اليوم التالي هذه سوف تكون على حسابهما بشكل من الأشكال، عندما يخرجان من هذه المعمعة أكثر ضعفاً، بغضّ النظر عن تقديرات ورؤى الانتصار والظفر. يتمثّل الضغط على نتنياهو خصوصاً، من خلال الشارع الإسرائيلي، الذي تأسّست حركته في التظاهر من أجل استقلال القضاء وفكّ القيد عن المحكمة العليا منذ فترة طويلة. ويتحرّك الآن من أجل الرهائن ووقف إطلاق النار. لذلك الشارع تأثير مهم لا نعرفه نحن العرب، ولم ندرك أيضاً أنه «عدوّ/ حليف» لنا في مواجهة العنجهية المتطرّفة، من أجل الوصول إلى سلم أفضل وتسوية أكثر عدالة.. نتذكّر هنا الربيع العربي، ومظاهرات تل أبيب اللاحقة.
لا مصلحة لنتنياهو بوقف إطلاق النار، ولا بأيّ ثمن، طالما أن رأسه في الحساب مع السلام بغضّ النظر عن نتائج الحرب، وحساباته تقتضي تمديد الحرب حتى يستطيع ادّعاء نصر كبير ومستحيل، أو تتكوّن شروط جديدة، رغم ذلك يعمل الكثيرون ومنهم الأوروبيون والأمريكيون على استثمار الوضع من أجل صفقة سلام للمنطقة كلّها، وليس للفلسطينيين والإسرائيليين وحدهم. لا مصلحة لحماس أيضاً في وقف لإطلاق النار غير مستدام، ولا في تحرير الرهائن المدنيين، الذين كان مستحسناً منذ البداية.. ولا مصلحة بانتهاء الحرب من دون بقاء ما يُستند إليه في المرحلة المقبلة، أو بانتصار ربّما، يؤمّن الاستمرار السياسي لحماس ومشروعها. هنا لا بدّ كذلك من ملاحظة قدرات وحنكة حماس وصمودها النسبي أمام الطوفان الإسرائيلي المضادّ، الذي دمّر البلاد والعباد، ولن يتركها إلّا كعصف مأكول. المهمّ فيما جرى بعيداً عن الشعارات وحتى عن المثاليات الصافية، أن حرب غزة استطاعت حتى الآن بلورة الوقائع أو الحقائق التالية:
أوّلها نهاية كثير من الأطروحات ونماذج الحلّ السابقة، ولا أعني هنا طموح «تحرير فلسطين»، أو الخلاص من المشروع الصهيوني، أو الانتهاء من وجود إسرائيل؛ بل تناهي – بدلاً من نهاية – «مشروع الدولتين» بالطريقة المطروحة سابقاً، والتي تقوم على إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة في عام 1967، لأنّ طبيعة» الاجتماع» على تلك الأراضي تغيّر كثيراً، وما زال يتغيّر ويستبدل ناساً بناس بسياسات الاستيطان، أو شعباً بشعب، بينهما علاقة دموية وطاردة للآخر تماماً. ليس هنالك من حلٍّ لهذه المعضلة إلّا بالطرد والإرهاب والتصفية.. وهذا صعب على عالم اليوم مهما بلغ انحيازه واستسهاله لمسايرة الأقوى والأكثر قدرة.
والدولتان، أو الدولة الفلسطينية التي يجري الحديث عن الاعتراف بها قبل قيامها- في أوروبا خصوصاً- مختلفة عن تلك الدولة التي رضي بها العرب والفلسطينيون من حيث المبدأ في السابق: لن يكون مطروحاً إلّا دولة لا تشبه الدولة، منزوعة السلاح، محدودة السيادة، تعيش على النوايا الطيبة في اليوم التالي للحرب.
وبسبب الترابط أو العلاقة القومية لو شئنا، والمصالح الدولية والإقليمية، وما هو الرئيس بين خيارات أصحاب المصلحة ومالكيّ الأسهم؛ سوف تستند التسويات الخاصة بالمنطقة إلى كلّ ما أُنجز ويُنجز حتى الآن: ابتداءً من قرار التقسيم 47، ثمّ اتفاقات الهدنة 49، فحرب 67 وقرارها الأممي رقم 242، التي اصفرّت أوراقها؛ قرارات مجلس الأمن، إلى اتفاق كامب ديفيد وشكله الموسّع الأكثر صراحة في «اتفاقات أبراهام» بين أولاد العم، مروراً بالمبادرة العربية.
بإطارها الأوسع والأكثر تعبيراً عن واقع الحال غالباً، وهو صراع إسرائيل مع إيران مباشرة، بعد أن كان كثيراً ما يعبّر عن نفسه بصراع الأولى مع قوى ترتبط بها، عضوياً كما هو حال حزب الله، ومصلحياً كما مع حالة حماس وما بينهما في حالة النظام السوري وجماعة الحوثيين؛ حققت حرب غزّة تحويلاً عميقاً ويتعمّق أكثر، يسحب التحفّظات على التعامل مع إسرائيل من التداول، ليقبله العرب، ليس على الجهة التي أبرمت اتّفاقات أبراهام وحدها، بل لدى قوى أخرى معروف عنها التطرّف ودعمه سابقاً. لذلك غدا التحالف «مع الشيطان»؛ لدرء خطر إيران الثورة الإسلامية/ الشيعية الداهم والمهاجم بعنف وعمق ديموغرافي وديني؛ أقرب إلى القبول كأهون الشرّين للمرة الأولى في تاريخنا الحديث.. لذلك طرحت بعض الرؤى في الغرب ضرورة «التحالف مع السنة» كواقع ممكن جديد. كما في كلّ ما يحيط بنا، تبرز المشكلة في كيفية التعامل والتأثير في مجرى الأحداث، بعقل جديد تماماً يستطيع المواءمة بين الواقعيّ والمأمول، بحيث يكون الأخير هو الجوهر وليس عكس ذلك.
موفق نيربية – القدس العربي
24 نيسان/أبريل , 2024
الاراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع