إذا ماتت سوريا التي نعرف، سيموت لبنان الذي نعرف ـ جهاد الزين

مقالات 0 admin

المفارقة أن الكيانين اللبناني والسوري اللذيْن قضتْ طبقاتُهما الحاكمة المتعاقبة معظم التسعين عاما التي انقضت على تأسيسهما، في التنافر والحذر والريبة المتبادَلة وأحياناً التصادم… هذين الكيانين اللذين سادت طويلاً فكرةُ تناقضهما “التكويني”، يَجِدان اليوم بعد الزلزال السوري، ويكتشفان ذلك بالملموس أكثر، أن الخطر المباشر على وجودِهما ككيانين يهدّدهما معا.

لا أتحدّث في العنوان أعلاه عن النظام السوري بل عن الكيان السوري “المولود” دستوريا في معاهدة 1936 بين قادة الكتلة الوطنية وبين الانتداب الفرنسي، والمولود سياسياً مع التعهد الفرنسي عام 1941 – خلال الحرب العالمية – باستقلال سوريا، والمولود سيادياً مع جلاء القوات الفرنسية عام 1946. عن تلك الخارطة الممتدة من درعا جنوبا إلى حلب وريفها شمالاً، ومن اللاذقية – طرطوس غربا إلى دير الزور – القامشلي شرقا.

إنه الكيان السوري الذي نعرف أنه مهدَّدٌ اليوم بين شراسة النظام العسكري الذي لا يفرّق بين حتفه وحتف سوريا ويأخذنا إلى الإثنين معا وبين خبث وغموض المخطّط الغربي الذي حوّل الثورة السورية سريعا إلى حرب أهلية وإقليمية طاحنة، جِدّتُها تكمن في أنها تهدّد بتغيير في خارطة المنطقة كلها ولا سيما لبنان الواقع في القلب السوري وليس على أطراف سوريا. وقد بدأ لبنان، لبنان ما بعد الأحداث السورية، يتغيّر بما لا عودة فيه. القوى الممسكة بالطائفتين السنية والشيعية تنخرط منذ اليوم الأول للعسكرة في الصراع داخل سوريا بأشكال متزايدة يومية تجعل كُلاً من حسن نصرالله وسعد الحريري عضواً في “غرفة العمليات” الأساسية التي تدير الحرب على كلٍّ من الجبهتين المتقابلتين دون الحديث عن الأدوار الأخرى المعلنة وغير المعلنة. تدفّقُ النازحين الذي لا سابق له في كل تاريخ الدولة اللبنانية من مختلف الطبقات السورية وبما يتجاوز قطعا المليون شخص أي بما لا يُقارَن بالنزوح الفلسطيني عام 1948 الذي أصبح متواضعا قياسا بالنزوح السوري اليوم. حتى أن سفيرة الاتحاد الأوروبي في بيروت قالت بما حرفيته مؤخرا: “لا أعرف بلداً في العالم رُبْعُ شعْبهِ من اللاجئين مثل لبنان”. ازدياد الميل الإنكفائي المكبوت لدى البيئة المسيحية اللبنانية إلى “العيش” المنفرد بصورة من الصور عن المسلمين اللبنانيين مع تحوّل لا سابق له بحدّته في نسبة وعيهم (أي المسيحيين) بوحدة مصيرهم مع مسيحيّي المنطقة بعد اندلاع الحرب السورية.

في هذا المناخ الذي ينبِىء قطعا بتَشكّلِ بركانٍ سينفجر ذات يوم فور رفع الغطاء الدولي عن “الإستاتيكو” الأمني السياسي اللبناني الحالي أو فور حدوث تحوّل نوعيٍّ في القتال الدائر في سوريا… في هذا المناخ هناك طرفان لم يعد يُمكن التوجّه إليهما لأنهما غير قادرين على المساعدة، لا مساعدة الغير ولا مساعدة “نفسيهما” بمعنى ما، إنهما:

طبقة سياسية لبنانية عاجزة عن تقديم تصوّر وطني لبناني مشترك للإنقاذ وتَشلّ الدولةَ اللبنانية معها على هذا الصعيد، و”طبقة” سياسية سورية مدنية معارضة موجودة في الخارج لا يمكن اللجوء إليها، بعد نضال سلمي طويل حافل لدى الكثيرين منها بالسجون، لأنها باتت أو وُلدت من مزيج من مسلوبي الإرادة السياسية (وبين هؤلاء أصدقاء عزيزون لي!)، وحديثي الخبرة غير القادرين على (أو غير الراغبين)، التواجد على الأرض السورية بشكل دائم رغم اتساع مساحة الأراضي التي لا يسيطر عليها النظام (ناهيك طبعاً عن نظام مغلق ويخوض المواجهة منذ اللحظة الأولى على أنه إمّا قاتل أو قتيل).

لم تُفرِزْ الأزمة السورية خلال أكثر من سنتين مشروع زعيم أو زعماء وطنيين كما يحصل في الأزمات الوجودية عندما تمر فيها البلدان. ليس “الزعيم الملهم” الذي تفرزه الديكتاتوريات ولكنْ الزعيم الذي تنضح الحكمة والمسؤولية من مواقفه كما كان ولا يزال نيلسون مانديللا؟ ولا أريد أن أقول “المهاتما غاندي” الذي قتلتْ عسكرةُ الثورة صورتَه باكراً بمجرد التخلّي عن فكرة المقاومة المدنية السلميّة التي بدأت عليها الثورة السورية في أسابيعها الأولى ولو ضد نظام عنفي قاتل؟ فمن قال إن المقاومة اللاعنفية تسقط بمجرد تعرّضها لِـ”أول” رصاصات مهما كانت قاتلة؟ سقوط أدّى إلى تحويل الأرض السورية، وسط تشارك في المسؤولية بين النظام والدول الغربية، إلى مختبر “تكفيري” و”فِتْنوي” خطير لا على خارطة المنطقة السياسية فحسب، بل على نمط حياتها وبصورةٍ خاصةٍ على نمط حياةٍ متراكمٍ لمجتمعاتها على مدى عقود وفي المقدمة المجتمع السوري وقواه المدنية في الداخل والخارج.

لحركةٍ أو “لوبيّ” تريد أو يريد تجميع قوى مساندة لإنقاذ الكيانين السوري واللبناني (وعلى المدى الأبعد الأردني) مع بدء إطلاق مشروع “مؤتمر دولي” حول الأزمة السورية… كيف هي صورة المنطقة “الخلفية”؟

… الدولة المصرية رئيساً وجيشاً وبقايا نخبة مصرية حاملة لثقافة استقلال وطني مصري أصيلة؟ الدولة الكويتية العائدة بعد صدمة صدام حسين الوجودية نحو نمط من الاعتدال المحفوف بمخاطرَ خليجيّة جمّة (وا كُويتاه!)؟ الحركة الوطنية الفلسطينية التي فقدت اتزانها الداخلي فكيف يمكن لها أن تكون عنصر اتزان في أزمات محيطة؟ كأنما يخسر الجيل الفلسطيني الحالي، وهو يسنّ أسنانَه للدخول في الحرب الأهلية السورية، فرصة جديدة من الحياد تليق باستعادة الأولوية المفقودة عربيا لقضيته وإن كانت تاريخيا القضية الأم للعالم العربي إلا أنها لم تعد عمليا القضية الأم؟ لماذا كل مرة يخسر النضال الفلسطيني العريق فرصة حياده العربية (لبنان ثم الكويت ثم سوريا اليوم) كأنما الاضطهاد الإسرائيلي الاقتلاعي الرهيب الذي مارسه ويمارسه الاحتلال الإسرائيلي تحوّل إلى خلل عميق في الشخصية السياسية الفلسطينية عندما يتعلّق الأمر بمحيطها القريب (فيلم إيليا سليمان “تدخّل إلهي” يعالج هذه المسألة بشكل رائع).

وهذه طبعا بعض الصورة لبعض القوى التي كان يمكن أن تكون مهيّأةً لدور الحد من انهيار خارطة المنطقة ولا سيما سوريا ولبنان؟ لا سيما الدور المصري الغائب رغم بعض المحاولات المهمة لكن التي لا تزال تحتاج إلى قوة الصدمة لتتحوّل إلى منعطف؟

في “النهاية” هل سيبقى التوجّه الأفعل هو إلى الرئيس باراك أوباما ووزيره جون كيري اللذين يكبحان حتى الآن تيارَ تدخّلٍ عسكريٍّ في المؤسسة السياسية الأميركية يضمُّ عناصرَ مهمّة من الجمهوريين والديموقراطيين؟ وبالتالي الرهان على التفاهم الروسي الأميركي؟ وهل سيكون الأخضر الإبرهيمي رجل هذا التفاهم وهو التائه صمتا بين ضميره وبين لعبة أمم يعرفها عميقا؟

لن نكفّ ولا يجوز أن نكفّ عن وضع مصير الكيانين السوري واللبناني معا حتى في جو مشترك “تسيل” فيه حدود العديد من دول المنطقة. والمفارقة أن هذين الكيانين اللذين قضت طبقاتُهما الحاكمة المتعاقبة منذ تأسيسهما، معظم التسعين عاما التي انقضت على هذا التأسيس، في التنافر والحذر والريبة المتبادَلة – حتى في أيام التعاون! – وأحياناً التصادم الكلّي أو الجزئي…. هذان الكيانان اللذان سادت طويلاً في لبنان فكرةُ تناقضِهما “التكويني”، يَجِدان اليوم وسيكتشفان ذلك بالملموس أكثر أن الخطر على وجودهما ككيانين يهدّدهما معا.

14/5/2013 – النهار

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة