انطباعات من الرّقة: عمّ تبحث!؟ ـ جمال خليل صبح
تنويه: كل الأسماء الواردة في المقال وهمية وكل المعلومات الواردة لا يتحمّل صحّتها ومسؤوليتها إلا صاحب المقال نفسه
في البدء، لا بدّ من التنويه إلى أنّ زيارة المناطق المحرّرة في سوريا الوليدة بعُسر لم تعد تقف عند استعراضات «السياحة الثورية» لمغتربين ونشطاء جذبتهم دبابات النظام المتفحّمة والكلاشينكوف المحمول على الكتف بسعادة بلهاء، بل تعدّتها لتكون همّاً معرفياً، وواجباً تواصلياً اجتماعيّ الطابع مع أهل الداخل، أو مع من بقي منهم وقرّر الصمود والمواجهة. وقد تكون زيارة الرقّة أحد أكثر النشاطات التي تحمل معاني ملتبسة، تعكسها أوضاع جديدة ومستجدّة، فرضتها ظروف مهّدت رافقت وتلت عملية التحرير الشهيرة تلك وتعتمل على أوجه كثيرة وعميقة من التباين والغنى الممزوجين بالقلق والحيرة. فالرّقة، عروس الفرات المدللة والمجهولة المهمّشة، أصبحت مختبراً واسع المدى، تختبر فيه الثورة السورية أوضاعها وتتفحّص مآلاتها المكنة، المفتوحة على كل شيء.
سوف يسلك الاتي إلى الرّقّة معبر تلّ أبيض ذائع الصيت، الذي سبق المدينة الام في «دومينو» التحرير الذي كان خاطفاً وسلساً يوم ذاك. لا تزال المعابر تعكس بعض الاوضاع في الداخل. معاناة القادمين والمغادرين تتبدّى للعيان. فوضى وجَلَبَة يبدوان أكثر عند الجانب السوري بالمقارنة مع الجانب التركي من المعبر، فيما يستقبل زوّار المناطق المحرّرة مقاتلون بلباس عسكري يُظهرون أسلحتهم بين الحين والآخر، ويقومون بتنظيم ما يصعب تنظيمه بسبب الزحام الشديد للقادمين بأمتعتهم وأطفالهم وهمومهم وفوضاهم. ليس للمعبر إدارة ووجه «مدني» بعد، ويبدو أنّه مازال يخضع لفصيل مسلّح وذي سطوة في المنطقة، «كتائب أحرار الشام الإسلامية». بعد اجتياز المعبر، بسهولة أو عُسر يخضعان لمنطق الصدفة والأهواء، تنتظر الزائر رحلة على طريق مليئة بالمطبّات والطرق الالتفافية الوعرة. في الاحوال العادية لا تستغرق الرّحلة من بلدة تل أبيض «البسيطة» إلى مدينة الرّقة اللعوب سوى ساعة من الزمن. ولكن، وبوجود بؤرة الفرقة 17 التي مازالت تحت سيطرة النظام ولم تفقد قدرتها على الايذاء عند منتصف المسافة تقريباً، فليس هناك بدّ من تجنّب الطريق السريع والالتفات على الاقدار للوصول إلى وادعة الفرات. لم يكن هناك أكثر من ثلاثة حواجز على طول الطريق، كان الاول لـ«أحرار الشام»، والآخران لـ«جبهة النصرة» (أحدهم يبدو لتنظيم دولة العراق والشام الإسلامية)، فيما يُبدي المقاتلون على الحواجز صمتاً وهدوءاً غريبَين وهم يتفحّصون أوراق المسافرين العابرين تحت شمس «جزراوية» حارقة.
كغيرك من الزائرين، وبشيءٍ من «لوثة» الصّحافة الغربية، قد تطرح على نفسك السؤال: عمّ تبحث هنا؟ عن «جبهة النصرة» والجهاديين المتشددين؟ حسناً، ستجدهم ومقاتليهم ومقراتهم وسيّاراتهم التي ترتفع عليها أعلامهم الشهيرة السوداء، مطرّزةً بـ«لا إله إلا الله» وتحتها الدائرة البيضاء التي تحتضن عبارة «محمد رسول الله». يُخيّل إليك أن الرّقة قد اقتسمت بين جناحين رئيسيين، «جبهة النصرة» و«أحرار الشام»، فيما تتوزّع الولاءات والمناطق والمقرّات على كتائب متعددة، منها ما هو تابع للجيش الحر كـ«لواء أحرار الرّقة» ذي الصّيت الحسن، ومنها لـ«الدولة الإسلامية في العراق والشام»، الجّماعة الإسلامية المتشددة التي تنضح بالقلق وبالكراهية المتزايدة من أبناء المدينة يوما بعد آخر. زائر الرّقة يلفت انتباهه جدران المدينة وحيطانها، التي مُلئت برسائل أصحاب القوّة والسّلطة من الكتائب الإسلامية المسيطرة، وبشكل يندر فيه أن تجد مكاناً لم تتمّ الكتابة عليه بعد. واضح بأن القوى الإسلامية المحافظة، بما تمثّله «الجبهة»، «الدولة» و«الأحرار»، تستهدف «الاستحواذ» على الفضاء العام بصيغة تبدو قسرية محكمة. تتمايل أغلب العبارات المكتوبة بين الوعيد الصّارم والموعظة الحسنة، تنهل تارةً من الذّكر الحكيم وتاراتٍ من الحديث، في خطاب ديني عامّ يستعجل «الهداية» و«تحكيم شرع الله» بما يتوافق مع رؤية القائمين على هذه الكتائب من أمراء وقادة، بعضهم معروف ومن أهل المدينة وبعضهم الآخر يبدو أنّه جاء من بعيد لأغراض كهذه. ليس هذا فحسب، بل يلاحظ الزائر أن اللوحات الاعلانية الكبيرة التي كانت ترتصف لتزيّن شوارع «دولة بشّار الاسد» الاستهلاكية تم استغلالها أيضاً بشكل بصري موفّق من أجل تيسير «فتوحات» القادة الجدد. فهذه لوحة جميلة التصميم كتب عليها «حجابي عزّتي»، وتلك لوحة أخرى زيّنتها الاية {ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين}، وأخرى ثالثة مميّزة أبرزت الاية {كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم}. أغلب اللوحات الاعلانية تُبرز ألواناً بسيطة يغلب عليها التدرّج والتمازج السّلس بين الاشكال والظلال. من خلال تجوالي في الرّقة لأيام لم أرَ أيّة لوحة أو عبارة على الجدران فيها شتائم أو تهديد طائفي معيّن، باستثناء جدار آيل للسقوط عند أوّل الاوتوستراد المتّجه صوب المدينة المنكوبة دير الزور، مكتوب عليه بخطٍ سيء للغاية «أبشروا بالقتل يا نصيريين»!
كانت عملية التحرير الخاطفة مفاجأة لقطاع لا بأس به من أهل المدينة، فيما يقول نشطاء كثر أنّهم كانوا على علم بـ«الواقعة» قبلها بفترة قصيرة، وبأن شيئاً ما كبيراً سيحدث في الايام والساعات القليلة القادمة، وذلك بحكم علاقتهم مع مقاتلي الكتائب وبحكم نشاطهم السّري الحاسم أثناء إحكام النظام قبضته على المدينة خلال الثورة. أحد قادة الكتائب الذي شارك في تحرير المدينة أخطرنا بأنّ هناك اتفاقاً جرى عقده بين المجموعات الاربعة الكبرى المشاركة في الاقتحام وينصّ على ترك المدينة خلال فترة 15 يوماً بعد استكمال التحرير وتسليمها إلى جهات مدنية من أهل الحلّ والعقد المشهود لهم. إلا أنّ هذه الوعود قد ذهبت أدراج الرياح بعد الموقعة، بل بدت الأمور، وما زالت، وكأنّ الأطباق على المدينة واقتسامها بين الكتائب الإسلامية هو الهدف النهائي من الاجتياح، فيما كان طرد قوّات الاسد وشبيحته، الذين لم يقصّروا بالإنتهاكات بحق أهل المدينة، خطوة لا مفرّ منها على هذا الدّرب «الإلهي». بخلاف ما يُشاع، كانت معركة التحرير غاية في الشراسة والقسوة، أبدت فيها قوّات «السّفاح» مقاومة لا بأس بها، فيما لا يزال أهل المدينة يذكرون العميد «أبو جاسم»، بسطار بشّار الأسد المتين في الرّقة، الذي أذاق الكثيرين الويل، والذي قاتل وقاوم حتى النهاية قبل أن يتم قتله في أروقة الأمن العسكري بدموية تشبه مسيرته تماماً. بعد أيام قليلة من القتال، قامت الكتائب المقاتلة بالاستيلاء على مقرات ومؤسسات كثيرة تابعة للدولة والنظام المتبخّرَين. اليوم هناك ما يشير إلى أنّ اقتسام المقرّات قام وما زال يقوم على قاعدة الأقوى، فيما يبدو بشكل أوضح أن «النصرة» و«أحرار الشام» لهما «نصيب الأسد» من تلك الأمكنة المَشاع. كان شيئاً يلفت النظر أن الملعب البلدي في المدينة يخضع الآن لـ«الجبهة»، ويقال أن فيه مركزاً للاعتقال، فيما ترتفع رايات «أحرار الشام» على مدخل البنك المركزي، الذي يقال إنّ المليارات التي كانت موجودة فيه قد تبخّرت بقدرة قادر وذهبت إلى صناديق الغنائم، وما أكثرها.
عمّ تبحث؟ عن قوى، تجمعات وأشخاص تعتقد بأنهم يمثّلون «سوريا المدنية» التي ينادي بها كثيرون من «وراء البحار»؟ حسناً، ستجدهم، وستجد تجمّعاتهم ومنشوراتهم وآثار أعمالهم ونشاطاتهم في كل زاوية من زوايا المدينة. في مقابل الجانب العسكري، المرتبط بوجود الكتائب الإسلامية وغيرها، والذي يأخذ بألباب «المتابعين» وانتباههم بشكل «متحيّز» واضح، تعيش الرّقة أجواءً غريبة من الحيوية «المدنية» يقوم عليها شباب ونساء، متباينو الخلفيات الاجتماعية والمهنية، يجمعهم الاهتمام بالشأن العام والانكباب على «اليوم التالي» فيما بعد التحرير. يندر أن تلتقي بشخص ليس عضواً في تجمع مدني ما. التجمعات المدنية يصل تعدادها إلى الأربعين، وتستهدف التعامل مع متطلبات المرحلة، سواءً تعلّق الموضوع بالإغاثة والإعلام، بإدارة التواصل بين الجهات الكثيرة في المدينة، عسكرية ومدنية، أو حتى بالمساعدة بتيسير أمور الناس في حياتهم اليومية وما تستدعيه من خدمات عامّة. بإمكانيات بسيطة وضعف هائل في التمويل المادي، يقوم نشطاء المدينة بحملات حيوية هادفة، منها ما يتوجّه إلى النساء والأطفال المرضى ومنها ما يلتفت إلى «وجه» المدينة ومتنفّسها من حدائق وأماكن عامّة. هنا أيضاً يجد الزائر «ميداناُ» آخر للتدليل على وجود «قطاع» لابأس به من الشارع، يقابل أو ينافس أو –أحياناً– يعارض «التيار الإسلامي» الدّعوي الذي يحاول احتكار الفضاء العام. قد تكون الرسومات والحملات الخاصّة بعلم الثورة هي أكثر النشاطات رمزيّةً في هذا السياق، وذلك لما يمثّله «العلم» ورافعوه والمنادون به من توجّه يبرز الاختلاف عن ذلك التيار القوي الآخذ بالبروز، دون الخوض في صراع لا يفيد معه، كما يقول الكثيرون هنا. جولة قصيرة في أحياء المدينة ستشعرك بـ«حرب الإرادات» الباردة تلك، مع التأكيد على عدم وجود تماسات واضحةً بين التيارين. هنا أيضاً قد يرتكب الملاحظ «هفوة» معرفية تلقى رواجاً سهل «التسويق» حين يبتلع طُعم التفارق التامّ بين ما هو عسكري-إسلاموي وما هو مدني-خالص. ورغم وجود أناس اختاروا الانكباب على أحد القطاعين بشمول واضح، إلا أنّ الكثير من العاملين في نشاطات مدنيّة كانت لهم أيضاً مساهمات في أعمال عسكرية أو شبه عسكرية، حتى وإن كانت قليلة وحتّمتها ظروف معيّنة. والعكس يجانبه الصواب أيضاً.
يبدو أنّ هذا القطاع الحيّ «المهمّش» لا يكتفي بالمشاركة ومحاولة التأثير في مجريات الاحداث بشكل إيجابي بعيداً عن ثقافة النّحيب والشكوى الرائجة –على الواقع الافتراضي على الأقل– بل يشعر بدوره كسلطة أخرى، يمدّه إحساسه بالثقة وروح المواطنة بقدرة عالية على ممارسة دور الرّقيب على مسارات الثورة، «أخلاقياً» و«إنسانياً»، وعلى تصرّفات الأطراف الفاعلة فيها بعد التحرير، بمن فيهم الكتائب الإسلامية ذات السّطوة، وغيرها أيضاً. قُدّر لي بالصدفة أن أحضر لقاءً مصوّراً أجراه نشطاء من «المركز الاعلامي بالرّقة» مع أحد قادة الكتائب العسكرية المشهورين، والتي تتبع للمجلس العسكري للجيش الحرّ. كان مشهدا مثيراُ للدّهشة، يجاهد فيه القائد العسكري للدّفاع عن نفسه وهو يُمطَر بالأسئلة المحرجة التي لم يعتد أحد في هذه البلاد على مواجهتها من قبل: «ماهي الأملاك التي ترجع لك قبل الثورة؟»، «ماذا تقول في أنّ كتيبتك مسؤولة عن سرقة محتويات المكان الفلاني الذي اقتحمتموه؟»، «هل قتلت أسير حرب من قوات النظام؟»، «هل تقومون بنوع من الدعم النفسي للمقاتلين في كتائبكم؟». رغم ارتفاح حرارة اللقاء في بعض المواضع، إلا أنّ الجو العام كان يوحي بأنّ ثمّة شيء ما لمّ يعد كما كان، فالقادة العسكريون وكل مقاتليهم باتوا يعرفون بأنّ قوى المجتمع الأخرى لهم بالمرصاد. انتهى اللقاء على وقع أسئلة من أشخاص آخرين حضروا كضيوف، وعلى وقع جوابٍ لا يخرج إلا من «روح سورية» يجري البحث عنها في خضمّ جحيم يُراد تعميمه: «أنا لا أقتل أسيراً في معركة حتى لو كان بشّار الاسد»!
تؤرق المدينة ونشطاءها ظواهر كانت حوادث متفرّقة اقتضتها ظروف متأرجحة من الانفلات الأمني بعد التحرير، وأضحت «منحىً» يُراد تعميمه وبشيء من الفظاظة وانعدام المعايير. لعلّ أبرز تلك الظواهر هي اعتقال الناشطين وغيرهم من المواطنين، لم تسلم منه حتى النساء، لا بل واختطاف البعض الآخر على يد قوّات تتبع لجهات إسلامية تمثّل «جبهة النصرة»، «دولة العراق والشام” بالإضافة إلى «الهيئة الشرعية» أبرزها، وغالباً تكون لأسباب على علاقة بضيق صدور أصحاب السّلطة الجدد بكل مخالف أو معارض لنشاطاتهم، أو حتّى بالمنتقد لسياساتهم في إدارة الأمور ولو على استحياء. «نبراس»، أحد أشهر نشطاء المدينة، كان لي حظ الالتقاء به هنا بعد عودتي بأيام قليلة، وإذ تم اختطافه من قبل مجموعة مسلّحة بشكل ميليشياوي مخيف (من قبل تنظيم «الدولة» على الارجح)، قبلها تمّ اختطاف أخيه الأكبر من قبل نفس المجموعة أيضاً، والاثنان ما زالا مختطفَين حتى ساعة كتابة هذه السطور. هنا يجد الزائر أيضاً أنّ لنشطاء الرّقة قوة كبيرة على تحدّي هكذا نوع من الانتهاكات، وبكل الطرق الممكنة، من اعتصامات ومظاهرات وحتى تشكيل وفود لمناقشة الحالات مع المسؤولين في تلك الجهات. لا تمرّ حادثة اعتقال أو اختطاف هكذا بلا جلبة، مع الاشارة إلى أنّ الوضع آخذ بالتصاعد، خاصّة في ظل أجواء النقمة التي تحثها أفعال كهذه في مدينة يُفترض أنّها تتنسم هواء الحرية بعد أمد من التظلّل بحكم أمني غاية في البطش. لا تقتصر نشاطات الاحتجاج المسؤولة هذه على النشطاء الذكور فقط، بل هناك مشاركة نسائية فاعلة وواضحة، في رسائل واضحة للجميع بأن «نحن هنا».
في الرّقة هناك الكثير من الجوانب الايجابية التي تستحق الذكر. فرغم الولادة العسيرة والمتكررة للمجلس المحلّي وتعرّضه للانفراط أكثر من مرّة، إلا أنّ هناك بوادر حسنة لتشكيل مجلس جديد يحظى بموافقة ودعم الأطراف الفاعلة، بما فيها القوى الإسلامية والعسكرية الأخرى. من شأن استكمال تأليف هذا المجلس أن يسهم في زيادة الحراك المدني في المدينة ورفده بكفاءات تستحقّها متطلّبات المرحلة، خاصّة من جهة إعادة الاهتمام «المنهجي» المدروس بالقطاع الخدماتي العام، والذي يعدّ الجانبان الصحّي والتعليمي من أبرز وجوهه المأمول مواجهتها في القريب العاجل، بالإضافة إلى بعض المحاولات التي تهتم بالجانب الزّراعي وبمحصول القمح على وجه الخصوص (تعتبر محافظة الرّقة ثالث محافظة منتجة للقمح في سوريا بعد الحسكة وحلب). هناك أيضاً محاولات لتشكيل «جهاز شرطة» من الشباب المتطوعين تقوم بإدارته «الهيئة الشرعية» كما يُشاع، والذي يمكن رؤية بوادره الاولى من خلال أفراد يقومون بتنظيم السير عند بعض التقاطعات المهمّة في المدينة بدافعية وحماس لم نعتدهما عند أفراد شرطة المرور في سوريا المنكوبة قبل الثورة، فيما بدا لافتاً أنهم يرتدون لباساً موحّداً وأنيقاً نوعاً ما. يقول الناشط «جاب الله»، المعتقل سابقاً في سجون الطاغية، والهادئ الممتلئ حيويةً وأفكاراً بأن الخطوات الأولى لإعادة الوجه المدني إلى أدواره المتخصّصة هي الأصعب ولكنّه متفائل بأنّ الأمور تمضي على ما يُشتهى رغم المعضلات الكثيرة التي تعترض هذه الرؤيا. يتابع جاب الله قائلاً: «في هذه الأيام نحن لم نعد بحاجة لمقاتلين، نحن بحاجة لسياسيين، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ».
من طبائع القدر أنّ المدينة لم تتعرّض للقصف الشديد كما هي الحال في باقي المدن، إلا أن القطاع الصحي ما يزال يئنّ تحت ضغط الحاجة ونقص المواد والمستلزمات الضرورية. في استكمال لمشروع بدأ على زمن النظام قبل الثورة، ما زال القسم في المشفى الوطني الخاص بالأمراض المزمنة والخطيرة التي تصيب الأطفال –كالسّكري، الناعور والتلاسيميا (مرض الدم)– يعمل بطاقة لا بأس بها في هذه الظروف. زيارة قصيرة إلى المركز الخاص بالتلاسيميا ورؤية الأطفال أثناء عملية تغيير الدم التي تتطلّبها كل حالة يجعل الزائر يصاب الغثيان والحسرة. يتمدّد عدد من الأطفال بأعمار مختلفة بجانب أهاليهم الحيارى، والذين غالباً ما يأتون إلى هنا من مناطق نائية وفقيرة ويبدو عليهم التعب والوهن، فيما معاصمهم (معاصم الأطفال) وأيديهم الطرية تنخرها أنابيب نقل الدم الموصولة بالأكياس عالياً. غير الشّحّ الكبير في أكياس الدم وفي بعض الزمر النادرة، هناك ما يُشعّ من أملٍ خاصةً بوجود متطوعين شباب يقومون على تيسير شؤون هؤلاء الأطفال من تسجيل وإصدار بطاقات صحية، بالإضافة إلى تنشيط حملات التبرع بالدم وتقديم المساعدات التي تجود بها جهات الخير بين الفينة والأخرى. «فاتح» هو أحدهم، يستقبل الأطفال وذويهم بدماثة محمودة، يملؤه النشاط وروح الدافعية، وينطق كلمات بسيطة ذات معانٍ: «أنا مالي موظّف، أنا متطوّع»!
لا يمكن زيارة المدينة دون المرور على مقهى الإنترنت الأشهر في المدينة، وملتقى النشطاء وغيرهم من الزائرين، «آبل كافيه». تراهم يملؤون المكان بكاميراتهم وأجهزتهم المحمولة، يتحلّقون حول الطاولات والأراجيل المتاحة. الإنترنت هنا متوفر أغلب الاوقات وبسرعات جيدة نوعاً ما. لا يبتعد المقهى سوى بضع عشرات من الأمتار عن المركز الإعلامي وساحة الكنيسة الشهيرة، التي أضحت «كعبة» التظاهرات النهارية والليلية. رقّة الفرات لم تَسِمْ شباب المدينة بالحيوية والحماس الثوري الجارف فقط، بل أمدّتهم بحسٍ فكاهي وروحٍ ساخرة لا تنضب. فرفيق دربنا «ملهم» يعلّق ساخراً على تسمية عملية تحرير المدينة «غارة الجبّار» بأنّها منقوصة الكلمات، «فالأصحّ القول ’غارة الجبّار على الستّة مليار‘»! هنا يتدخّل أحد الحاضرين ويصحّح له، قائلاً «يا أخي ما كانوا ستة… كانوا 4 مليار»، في غمز ولمز للأخبار التي تناولها أهل المدينة حول استيلاء حركة أحرار الشام على الودائع المالية التي كانت في البنك العقاري بعيد التحرير. شابّ آخر يدعى «محمد شرف» يداوم منذ سنتين على أرشَفة كل صغيرة وكبيرة على علاقة بالشهداء والمعتقلين في الثورة، بصمت وإمكانيات تكاد تكون معدومة. يحدّثنا عن خروجه مع المقاتلين للتصدّي للرتل العسكري الذي حاول فكّ الحصار عن الفرقة 17 قبيل أيام قليلة من الزّيارة، فما كان من أحد القادة الميدانيين إلا أن أطنب عليه وشكَره على قدومه إلى قلب المعركة، بعد ذلك همس في أذنيه حول خطورة ارتدائه القميص «ناصع البياض» والمكويّ بشكل جيد، والذي يمكن من خلاله أن تتمكّن قوات الأسد من اكتشافهم وتعطيل سَير المعركة! أحد الشباب أسرّ لي بأن الشيء الوحيد الحسن الذي قامت به «الكتائب الإسلامية المتشددة» هو منع إقامة صلاة التراويح ذات العشرين ركعة في بعض المساجد، وإرغام المصلّين على الركعات الثمانية، وذلك لما تسببه «مصاحبة الوالد» من مشقّة كبيرة له!
غادرتُ الرّقة على وقع صور وذكريات كثيرة، بعضها يحمل قلقاً كبيراً بينما يزخر البعض الآخر بالأمل الطافح الذي نحتاجه أينما حللنا. ككل المدن رفيقة الأنهار العاتية، هنا يحدّثونك أيضاً عن تلك الاسطورة التي تبشّر «شاربي مياه الفرات» بقدومهم مرة أخرى تحت تأثير شيء «جَبْريّ» لا يقاوم. في الرّقة مرتع كبير للعمل المدني والأهلي الذي يمكن التعويل عليه وهذا لا تقتضيه ضرورة «الأساطير» فقط، بل يجب أن تفرضه هموم الثورة وتساؤلات «اليوم التالي»، بعيداً عن «ثرثرات» الواقع الافتراضي، ذلك الشرّ الذي لا بدّ منه!
والسلام عليكم
موقع الجمهورية
29 تموز 2013