طوفان الأقصى والهزيمة المتكررة

جاءت عملية ”طوفان الأقصى“ النوعية –رغم ما شابها من تجاوزات بحق المدنيين– في ٧ اكتوبر ٢٠٢٣ لتشكل ضربة شديدة الأثر في اسرائيل شعباً وحكومة، وهذا ما فسر حجم ومستوى الرد الاسرائيلي المتوحش والمدان بأشد الدرجات –دون أدنى شك– حيث تجاوزت أعداد الأرواح المزهقة ال ٣٦ ألف مع كتابة هذه السطور، إضافة إلى أكثر من ٨٠ ألف جريح ومعاق من الجانب الفلسطيني، في مأساة متنقلة ومتواصلة من النزوح الجماعي والجوع وتدهور أسس الحياة للغزاويين، فضلاً عن تدمير واسع النطاق وانهيار شبه كامل للبنى التحتية، مترافقاً مع استمرار التهديدات باجتياح شامل لجنوب القطاع في رفح، كان جيش الاحتلال قد باشر به في شرق المدينة، مع تصاعد موجة عارمة من الاحتجاجات في جامعات وشوارع العالم الغربي، كما انعقدت محكمة الجنايات ومحكمة العدل الدولية في لاهاي بطلب من جنوب أفريقيا ولاحقاً دعمتها عدة دول من بينها تركيا ومصر، المحكمة التي أبدت مستويات متقدمة من الجدية والعدل ضمن محاولتها لفرض تطبيق القانون الدولي بما يخص الإبادة الجماعية التي تعمدت إسرائيل القيام بها وتقدم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان بطلبات توقيف واعتقال رئيس الوزراء “بنيامين نتانياهو” ووزير الدفاع “يوآف غالانت” وكذلك إصدار مذكرات اعتقال بحق ثلاثة من كبار قادة حماس هم “يحيى السنوار”، رئيس المكتب السياسي للحركة في غزة، و”محمد دياب إبراهيم” (ضيف)، قائد كتائب القسام الجناح العسكري للحركة، و”إسماعيل هنية” رئيس المكتب السياسي للحركة، الأمر الذي يؤكد نزاهة وحيادية المحكمة تجاه الأطراف المنتهكة للقانون الدولي برغم الضغوطات الأمريكية والاسرائيلية عليها، كما ظهر تصدّع مهم في حكومة الحرب الاسرائيلية الأكثر يمينية بتاريخها، إذ هدد ”بيني غانتس” العضو الوسطي الشعبي بالاستقالة من الحكومة إذا لم يتم تبني خطة جديدة خلال ثلاثة أسابيع للحرب في غزة، حيث كان قد طرح خطة من ست نقاط تشمل إعادة الرهائن، وإنهاء حكم حماس، وتجريد قطاع غزة من السلاح، وإنشاء إدارة دولية للشؤون المدنية بالتعاون الأمريكي والأوروبي والعربي والفلسطيني. وتدعم الخطة أيضًا الجهود المبذولة لتطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية وتوسيع الخدمة العسكرية لتشمل جميع الإسرائيليين، بالتوازي مع استمرار المظاهرات في شوارع القدس وتل أبيب وحيفا للمطالبة برحيل ”نتنياهو“ وضرورة وضع حد للحرب والاسراع بإعادة المختطفين المتبقين في غزة.
باختصار يمكننا القول إن ”حماس“ التي تحكم قطاع غزة منذ أكثر من عقدين، كانت قد فاجأت العالم بنجاحها في اختراق أمني كبير لجيش الاحتلال الإسرائيلي، مستغلة عنصر المباغتة بعد تحضيرات سرية مديدة ودقيقة في الاعداد لهذه العملية النوعية، ولكننا بالوقت نفسه نسجل غياب حسابات قادة ”حماس“ لمستويات ردة الفعل الاسرائيلية، ومدى تقديرهم لمساهمة ومشاركة الحلفاء ”فريق الممانعة“ في محاربة وإضعاف جيش الاحتلال أو مشاغلته وانهاكه على أقل تقدير، وخاصة مساهمة الطرف الأكثر قوة في هذا الفريق والمقصود بذلك إيران و“حرسها الثوري“، كما لا يمكننا إغفال تجاهل السلطة الحمساوية لخيارات المجتمع الغزاوي –رغم كل التأييد الشعبي الذي حظت به حماس في القطاع- فلقد طال انهاك المجتمع الغزاوي اقتصادياً ومعيشياً تحت وطأة عزلة سياسية مديدة، ولأسباب كثيرة، أهمها استمرار الانقسام الفلسطيني والصراع على الشرعية مع سلطة رام الله في الضفة الغربية– وبالتالي خيضت مغامرة طوفان الأقصى –بعواقبها الكارثية– دون حسابات عقلانية واقعية لمدى جهوزية الغزاويين في معركة من هذا الطراز.
وهنا قد يعترض كثير من المندفعين أو المنتشين بالانتصارات الجزئية، وكنا قد شهدنا أصوات عديدة منهم على الفضائيات العربية، يسوقون المبالغات والأوهام، ويصدّعون رؤوسنا بحتمية الانتصار، حتى أن منهم من تفتق بنبوءة (حتمية زوال اسرائيل من بعد عملية طوفان الأقصى)، وتعالت إدعاءات النصر كالعادة بعد كل معركة سابقة –مهما كانت محدودة ومهما أسفرت نتائجها عن هزائم وخسائر– متشبهين بالحكومات العربية في حروبها مع إسرائيل، تتعالى أصواتهم ورؤوسهم المنتشية والمشبعة بالايديولوجيا -الإسلامية أو اليسارية القومية- التي تدعي النصر والتفوق بعد استعراضها لخسائر العدو ميدانياً وسياسياً وهي بحق الأكبر كماً والأشد إيلاماً منذ قيام الدولة العبرية، لكن واقع الحال يقول أيضاً بأن حجم تلك الخسائر لايمكن مقارنته بحجم الكارثة التي وقعت على الغزاويين في القطاع والتي لم يشهدها الفلسطينيون منذ نكبة ١٩٤٨ التي مرت ذكراها ال٧٤ قبل أيام بكثير من الألم.

صحيح أن حماس قد اعتمدت على دعم الجانب الإيراني –الذي استثمر كثيراً في القضية الفلسطينية– وهذا مفهوم جداً بعد تخلي العرب رسمياً عن فكرة تحرير فلسطين وابتعاد حكوماتهم عن الحركات الاسلامية –باستثناء قطر- لكننا لن نتوقف عند هذا التفصيل كثيراً، ولنلقي الضوء على مغامرة ”حماس“ الجديدة، التي تظهر عدم التحضير الحقيقي وعدم إدراك أن المواجهة مع اسرائيل –المتفوقة والمتقدمة عسكرياً وسياسياً في محيط عربي متأخر– كمواجهة حقة تفترض تأمين الحد الأدنى من مقومات نجاحها، النجاح الذي يبنى أولاً على درجة تحرر الشعوب والساسة وثانياً على عودة القضية الفلسطينية الى عمقها العربي بوصفها الحقوقي والإنساني العادل، وثالثاً على ضرورة تقدم العرب شعوباً وحكومات وتمثلهم قيم العصر –وهي المهمة المركزية الشّاقة– حيث بناء المجتمع والدول الديمقراطية في المنطقة بالمعنى الاستراتيجي. ولا يغيب بالطبع ضرورة الاستفادة من الدعم العالمي المتنامي للحقوق الفلسطينية وتوسع الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، وأهمية تحقق تمثيل سياسي موَّحد للشعب الفلسطيني، وبالتالي بناء استراتيجية شاملة قبل المضي بأي مواجهة أو حرب بات القاصي والداني يدرك نتائجها سلفاً -ضمن موازين القوى القائمة- فالنتيجة الموضوعية ببساطة لأي مغامرة عسكرية دون إعداد مجتمعي ورسمي شامل هي الهزيمة الماحقة.
القول هنا ليس دعوة إلى التقاعس والاستسلام بل دعوة لتجاوز واقع الهزائم من خلال تحرر شعوب المنطقة من سلطات الاستبداد وقوى التطرف القابعة في لدنها، ما يشكل مقدمة طبيعية لا فكاك منها لبناء القدرات الذاتية والاعداد الشامل لمواجهة التحديات فضلاً عن مواجهة الاحتلال، إنه دعوة للمواجهة ولكن بعد تمثل أدوات العصر (وتحقق بناء المواطـن الفرد الحر الكريم المتساوي، وإدراك مبادئ حقـوق الإنسـان، الديمقراطيـة، العدالـة، الفاعليـة التقنية والاقتصاديـة، الثقافـة وحرية الاعتقاد والتعبير، التعليـم والتقدم العلمي، بناء المنظمات المدنية والشركات والتنميـة البشـرية، .. إلـخ)، فلن تنجح أية مواجهة مع دولة الاحتلال ذات البنية الحديثة والمدججة بالأسلحة –ليس الترسانة النووية فحسب– والتي تشهد التطور السياسي والاقتصادي والعلمي، نقول لن تنجح المواجهة رغم شدة الانتهاكات والعورات التي حملها ويحملها اليوم هذا اليمين الاسرائيلي الحاكم في المجتمع والدولة، والذي تصدر المشهد السياسي منذ عقدين، ويساهم بزيادة درجة التطرف لدى الفلسطيني، وبالمقابل يستفيد هذا اليمين من صعود حماس في غزة واعلان رغبتها بإنهاء اسرائيل واقتلاعها من الوجود، فيتخادم المتطرفون موضوعياً، ويدفع القطاع الثمن كارثة وهزيمة جديدة.
جاءت نشأة حماس والجهاد الاسلامي منذ انطلاق ما يسمى بالصحوة الاسلامية وانتصار الخمينية في إيران. وارتفاع معدلات الإرهاب والتطرف بعد أفغانستان والقاعدة، مترافقاً مع تراجع المشروع القومي العربي وتآكل مواقفهم الرسمية بالتتابع من خطاب ”طرد اليهود“ ولغة تحرير ”فلسطين من النهر الى البحر“، إلى ”المقاومة“ و“حرب التحرير الشعبية“، للنكسة والدعوة ”لإزالة آثار العدوان“، فحرب أكتوبر ومسار التسوية والتطبيع، واتفاقات أوسلو، إلى أن جاء صعود إيران الخمينية وتنامي دورها وانعكاساته على المنطقة العربية بتشكيل مايسمى ”المقاومة الاسلامية“ ك”حزب الله“ وحماس وعودة المتاجرة بالشعارات وانفتاح المنطقة من جديد على حروب أهلية وانقسامات وتشظي إثني وطائفي، كما شهدنا تفاقم خطاب الكراهية (بين مختلف المعتقدات والطوائف) في الاقليم وهذا ما يفاقم من تدهور أحوالنا ويضاعف خساراتنا، ففي واقع كهذا من الطبيعي أن تبقى الهزائم ماركة مسجلة لدينا، ومن المنطقي –وفق موازين القوى– عدم حسم القضية عسكرياً، وكذلك بالمقابل لن تفلح المسارات السلمية التي تجرأ عليها “السادات” يوماً ومن بعده كثير من القادة العرب –برغم أهميتها وواقعيتها– فهي لم ولن تفلح في الوصول الى تسويات وسلام وتعايش حقيقيين، إذ مازال الاحتلال بعدها قائماً ويتمدد واستمر خطاب الكراهية بالتصاعد بين متشددي الضفتين واستمر الحال قائماً على منطق الغلبة وكسر الإرادات، ليس بسبب القدرات الاسرائيلية وترسانتها النووية وأثر تبني الحكومات الغربية لإسرائيل فحسب، بقدر ما هو بسبب استمرار التأخر العربي بمعظم الميادين والصعد، مترافقاً مع نمو الحركات الجهادية المتطرفة عقب نجاح الخمينية بالاستيلاء على السلطة في إيران، كما شهدنا حجم التطرف أيضاً بعد انطلاق ”الربيع العربي“ في ٢٠١٠، والذي كشف عارنا وعدم تمكن بنى مجتمعاتنا المنتفضة من بناء بدائل وقدرات حديثة وغرق مشروعها بالماضي، وكانت قابليتنا للاستعمار وجاءت قابليتنا للهزائم كتحصيل حاصل.
بالعودة الى ”طوفان الأقصى“ ، يعلم الجميع أن الحرب ستضع أوزارها عاجلاً أم آجلاً، وستجري بالتالي عملية سياسية، قد تستبعد بعدها فاعلية ”حماس“ كقوة مسلحة على الأرض، وستنجلي النتيجة بالطبع لتفرض مستويات جديدة من الهزيمة العربية –المتتابعة منذ عقود إن لم نقل منذ قرون– ومازالت الرؤوس المنتشية بسكرات انتصارات المقاومة الإسلامية، لا تعير بالاً لهذه الحقيقة وستعد نفسها منتصرة لمجرد اثارتها للمشهد وقد تحصر أسباب الهزيمة –اذا تجرأت على الاعتراف بها– في طبيعة السلطات العربية ”العميلة أو المتواطئة“. كما لن تهز أعداد الضحايا وحجم الخسائر شعرة من جفن اليساريين القوميين والإسلاميين بشقيهم السني والشيعي، ويستمر المستبدون (عسكريون أم مدنيون) باستثمار شعارات المواجهة والممانعة على حساب دماء شعوب المنطقة، ولن نجني من هذا التصعيد إلا المزيد من المتطرفين في الضفتين والمزيد من الموت والقتل والدمار. و ستبقى الحكاية بالنسبة للفلسطينيين والعرب –مع اختلال التوازن الحضاري هذا– مجرد انتقال من هزيمة الى هزيمة، والواقع إن اختلال التوازن لن يجني نصراً وكذلك لن يحصد سلاماً أيضاً، لتبقى التسويات المحتملة مجرد إذعان قائم على تفوق واجتياح الآخر لنا على كل المستويات والأصعدة. فالسلام أيضاً يحتاج الى الأقوياء والنديّة كي يكون مستداماً، ومن هنا تأتي أهمية بناء القدرات وإطلاق ثورة ثقافية واجتماعية وسياسية تحقق نقلة في الواقع والوعي الجمعي، يدفع بها العقلاء المعتدلون الأحرار في المنطقة العربية كما في اسرائيل، إلى الاعتراف بحق الوجود والاختلاف والتنوع وبناء الدول الحديثة المتجاورة والمتعاونة لتحسين ظروف حياة شعوبها المنهكة بعيداً عن الحروب ومنطق الإلغاء والكراهية، ولتنهض المنطقة بخطاب انساني تحرري مبني على تحديث الاقتصاد والسياسة والمجتمع ويمكننا من إيجاد حل ديمقراطي للمسألة اليهودية في المنطقة – العويصة في ذهن الاسرائيليين والعرب على حد سواء– ضمن مشروع نهضوي يشمل كل شعوب المنطقة، لا يستبعد المضي في خيارات صعبة وعميقة لحل القضية الفلسطينية –باعتبارها قضية عادلة– خيارات تطال طبيعة ونشأة دول المنطقة وضرورة بناءها على شرعة حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية، كحل الدولتين الذي طُرح في بنود اتفاقية أوسلو، و كان بناءً على حق ورغبة الفلسطينيين بالاستقلال و السيادة، وفقاً لقرار الأمم المتحدة رقم ٢٤٢ ، الذي يطالب الإسرائيليين بالانسحاب من أراضي عام ١٩٦٧. أو خيار الدولة الديمقراطية الواحدة وغيرها من الحلول التي لن يعصى على العقلاء لدى الفريقين اجتراحها وافتكاك القضية من الحقل الديني والمقدس لحلها في حقل السياسة والواقع.

تيار مواطنة – مكتب الإعلام

٢٦–٥–٢٠٢٤

Loading

الكاتب wassim hassan

wassim hassan

مواضيع متعلقة

3 تعليق على “طوفان الأقصى والهزيمة المتكررة”

التعليقات مغلقة