مؤتمر ستوكهولم.. جهود لتحقيق التوافق الوطني السوري – عصام دمشقي
لا يمكن تجاهل الضرر والخسائر الكبيرة التي تتكبدها الحركة السياسية السورية والتي تعيق العمل المشترك، لأسباب يمكن اعتبارها ذاتية المنشأ، رغم أنها في النهاية ترتبط بسيادة نمط مشوّه من الحياة السياسية خلال فترة طويلة، مثل تسلط وفردية ومحدودية بعض القيادات أو رؤساء الأحزاب أو الأمناء العامين، وحتى الانتهازية وحساب المصالح الخاصة وغياب روح الحوار والتفاعل مع الآخر. لكن النظرة التي تحاول النفاذ أكثر عمقًا في الوضع السوري، لابد أن ترجع مشكلة عدم تقدم العمل الجبهوي أو التحالفي أو المشترك إلى الواقع الموضوعي السوري ودرجة تعقيده من حيث تعدد الانتماءات الفكرية والسياسية والدينية والقومية، وحتى الانتماءات الأكثر فرعية، منها الطائفية والعشائرية. فقد تسلّطت على المجتمع السوري منذ أكثر من خمسين عاماً سلطة عمّقت كل مشاكل وأمراض الحركة السياسية السورية، واستخدمت وسائل منحطة وأساليب مباشرة أو غير مباشرة، بقصد إضعاف الجميع ولتبقى هي السيدة والمسيطرة، ولتضيف مزيداً من التعقيد والتشوه في عملية تبلور الهوية الوطنية السورية، التي لم تكن قد نضجت أو اكتملت بشكل كافٍ بعد، بحيث يصبح الانتماء إليها طاغياً على الانتماءات ما قبل الوطنية أو أي انتماءات أخرى، باعتبار هذه الهوية هي وحدها الكفيلة ببناء دولة المواطنة السورية.
قد يوحي التقديم أعلاه بالتشاؤم أو اليأس من تحقيق تقدم في موضوع التحالفات، ولكنه ضروري حتى نقدّر صعوبة العمل وحتى نفهم أسباب فشل المحاولات المتعددة السابقة، وأخيراً حتى نمتلك إرادة الاستمرار في المحاولة، وعلى أسس صحيحة مستوعبة لكل الإشكاليات في الواقع الموضوعي، ولكل أمراض الواقع الذاتي.
في بلدنا وبعد معاناة استمرت 13 عامًا حتى الآن، أقدر أن البداية الصحيحة الضرورية هي التوافق على برنامج وأسلوب التغيير السياسي والتوافق على شكل الدولة السورية القادمة. وبالطبع كل تحديد يضيق مجال التوافق، ويقلل عدد وحجم المشاركين في أي عمل جبهوي، لكن في النهاية، الحديث عن ما يناسب الجميع قد يُفشل أي عمل مشترك. بدلًا من ذلك، يمكن التوافق حول برنامج محدد مع بعض القوى المتقاربة، ويمكن بعدها التفاوض مع الآخرين، الذين ربما ينجزون تحالفات أخرى، على توافقات أكثر عمومية. ويمكن أيضاً العمل من أجل أهداف مشتركة ولكن كلٌّ يعمل على طريقته.
وإذ تحدثنا بشكل أكثر وضوحاً، لابد من العمل على تحقيق جبهة وطنية ديمقراطية عريضة تؤمن بمستقبل سوريا الديمقراطي العلماني وعلى التغيير السياسي من خلال عملية انتقال سياسي وفق القرارات الأممية وخاصة القرار 2254. ولكن هذه الجبهة يمكن أن تتفاوض وتتعاون وتعمل مع قوى تشاركها الهدف لكن دون اتفاق كامل على شكل النظام السياسي القادم. وربما يمكن التفاوض أيضاً لتحقيق هدف التغيير مع قوى لا تشاركنا الهدف ولكن تشاركنا الرغبة بالتغيير، مع المراهنة على الصيرورة التاريخية التي تسمح لكل طرف بالعمل فيما بعد وفق إمكاناته السياسية ونفوذه الاجتماعي وتحالفاته.
تميز العمل في مسار ستوكهولم التحالفي أو الجبهوي بعمل هادئ بدأ بتحضيرات داخل سوريا وخارجها وتشكيل لجنة تحضيرية فيها مندوبون من عدة قوى سياسية ثم تم تعديلها وإضافة آخرين إليها، كما تنوع شكل المشاركة فيما بعد ليشمل نشطاء شباب. عقدت اللجنة عدة جلسات تشاورية في ستوكهولم وبروكسل بمشاركة قوى وشخصيات وطنية سورية. في الجلسة التشاورية الأولى في 12 ديسمبر/كانون الأول عام 2021، تم في جوٍّ من الرغبة بتوسيع المشاركة وعدم الإقصاء، التوافق على نقاط هامة تتعلق بمسؤولية النظام عن الحالة الكارثية التي آلت إليها سوريا وعن ضرورة تحقيق الانتقال السياسي من خلال القرار الأممي 2254 وبيان “جنيف 1” وتحقيق العدالة الانتقالية وعودة اللاجئين والنازحين وإطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصير المفقودين، كما توافق المجتمعون على القطع النهائي مع الاستبداد والإرهاب وعلى بناء سورية الديمقراطية دولة المواطنة المتساوية.
وفي اللقاء التشاوري الثاني، الذي عقد في إبريل/نيسان 2022 تم البدء بنقاش بعض القضايا المتعلقة بالدولة والهوية واللامركزية وتم التوافق على اللامركزية كشكل إداري مناسب وبنفس الوقت كمدخل لضمان حقوق المكونات الاجتماعية في سوريا المستقبلية الموحدة جغرافياً والقائمة على الديمقراطية والمواطنة المتساوية. وضمن أفق توسيع المشاركة، اقترح المشاركون العمل في المجالات النسوية والشبابية والمهنية والنقابية، حيث لم يجر بعد استكمال العمل الذي بدأ خاصة في مجال إدماج الشباب في فعاليات اللقاء.
تابع لقاء مايو/أيار 2022 نقاش القضايا الضرورية من مثل التعافي المبكر ودور القطاع الخاص السوري ورأس المال الوطني، ولكن النقطة الأهم التي ناقشها كانت إشكالية الهوية السورية حيث توصل الحاضرون إلى التوافق على “إعلان الهوية” الذي يقر بتبني الهوية الوطنية السورية كهوية جامعة تحدد علاقة السوريين بدولتهم وفيما بينهم ولا تفرض التخلي عن هوياتهم الفرعية الأخرى.
بحث اللقاء التشاوري الرابع عملية الانتقال السياسي والسيناريوهات المحتملة ووضع المرأة واعتماد مرجعية إعلان حقوق الإنسان العالمي. كما ناقش مشكلةً طالما تعرضت لها القوى السياسية السورية وهي مسألة فصل الدين عن الدولة والشروط الممكنة لتحقيق ذلك في سوريا، واختتم بضرورة تحديد المبادئ الدستورية العليا التي لا بد منها لنجاح الانتقال السياسي وترسيخ النظام الديمقراطي في سوريا.
هكذا يمكن القول إن اللقاءات التشاورية تناولت مجمل القضايا الضرورية واللازمة من أجل تحقيق عمل جبهوي أو تحالفي، ومن أجل الانتقال إلى المرحلة العملية. فقد قامت اللجنة بإجراء عدد مهم من الاتصالات مع قوى وشخصيات ديمقراطية سورية يمكن أن تشارك في تحويل اللقاءات التشاورية إلى عمل مؤسسي منظم، لكن هذا العمل لم يتم مع الأسف وتعرض لانتكاسة وتأخير زمني خاصة بعد ما جرى في دير الزور وانعكاسه على عمل لجنة الإعداد.
جرت، كما ذكرتُ سابقًا، محاولات كثيرة في الساحة السورية للعمل التحالفي، وأعتقد أن أهمية هذه المحاولة تكمن في توافق المشاركين فيها على مستقبل سوريا الديمقراطية الموحدة مع نظام لامركزي موسع ومن خلال دولة المواطنة المتساوية مع ضرورة حيادية الدولة تجاه الأديان. وكذلك التوافق على إجراء التغيير من خلال القرار الأممي 2254 وبإشراف المنظمة الأممية. إن ما يعطي هذه المحاولة أهميتها أيضًا لا يكمن فقط في توجهاتها ونظرتها لأسلوب التغيير في سوريا ولكن أيضًا في مشاركة ودعم مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) الأمر الذي يعني الانطلاق من أرض خارجة عن سيطرة النظام، وتحظى بنوع من الاعتراف الدولي، كما يعني أهمية مشاركة الكرد، أينما وجدوا في سوريا وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، في صياغة مستقبل سوريا.
إن دور مسد -حتى يكون عنصر قوة، وليس عنصر ضعف في هذا المشروع- يعني ضرورة مواجهة تحديات كبيرة بينها الإرهاب والدور التخريبي للنظام ولإيران في هذه المناطق، وكذلك التحول إلى مكان جاذب للسوريين من حيث عدم تركز السلطة والإدارة، وإشراك أهل المنطقة بمختلف مكوناتهم، عربًا وكردًا وسريان آشوريين وغيرهم باعتبارهم مواطنين سوريين أي ينتمون للشعب السوري، في الإدارة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من خلال ترسيخ الحريات العامة، وكف يد أصحاب الممارسات المسيئة بحق العلاقة الكردية-الكردية والكردية-العربية. وقد لا تتطلب طبيعة المرحلة أكثر من إقامة أنظمة مؤقتة للإدارة والحوكمة، لا تكون مستوحاة من تجربة إيديولوجية للطرف المسيطر في المنطقة، ولا تتعارض مع العمل السياسي من أجل إجراء الانتقال السياسي عمومًا.
أخيرًا، إذا استطاع مؤتمر ستوكهولم حشد قوة سورية وازنة؛ تنظيمات وأفراداً، وذلك بالاستمرار بالعمل على جسر الهوة بين القوى الديمقراطية السورية، فإنه قد يحظى باهتمام دولي يساعد ويشجع ويدعم عملية الانتقال السياسي، وهذا ما ينتظره السوريون جميعاً.
عصام دمشقي 19-6-2024
الاراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع