إدلب شجرة الحياة المتجدّدة

إدلب، إحدى ساحات سلطات الأمر الواقع، التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام”، المصنفة دولياً وإقليمياً كمنظمة إرهابيّة، مع أن ذلك لا ينقص من قدرتها على الاستمرار في حكم مناطق واسعة، في شمال غرب سورية، وقد بدت الهيئة، في بعض الفترات، أكثر قدرة على الضّبط والسّيطرة والتّنظيم من الفصائل العسكرية الخاضعة للجيش الوطني وللنفوذ التّركي.وبعد مرور 13 عاماً على اندلاع الثّورة السّورية وحوالي سبعة سنوات على سيطرة ” النّصرة” على هذه المنطقة لا يزال الأفق مسدوداً أمام الحل السّياسي المقبول دولياً لكن الذي لا تتوفر أية ظروف وتوافقات دوليّة وإقليميّة لتنفيذه، وحيث ربما انصرف الاهتمام إلى قضايا إقليمية ودوليّة أخرى، وهذا ما يترك المنطقة نهباً لصراعات وفساد وتفكك ونهب وقمع وكل المظاهر التي ترافق عدم وجود دولة مؤسّسات تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وما يزيد الأمر تعقيداً عدم وجود أمان كاف فالقصف شبه يوميّ على المدينة وريفها وبلداتها، كما يعاني السّكان خاصة منهم النّازحين وسكان المخيمات من تقلص فرص العمل ومن المصادرات وفرض الأتاوات والضّرائب الباهظة على البضائع، وبالمحصلة من وضع معاشي صعب، زاده حدّة تقليص المساعدات الدّولية.

على هذه الأرضية العامة من الاحتقان العام اندلعت المظاهرات في إدلب ولا تزال مستمرة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، البداية كانت بسبب التغول الأمنيّ والاستبداد والصّراع الداخلي في تركيبة سلطة أمر واقع، قد تمتلك بعض البراغماتية، لكنها لا تغادر منظومة الفرد المستبد الذي يعتبر حكمه شكلاً من أشكال الخلافة الإسلامية، قد يغير أو يعدل لكن وفق مشيئته ودون الخضوع إلى أية ضوابط مؤسّسية، وضمن الحدود والهوامش التي يضعها هو ويحدد خطوطها الحمراء. يساعد ” الجّولاني” في تثبيت حكمه القوي، كما قلنا أعلاه، عدم وجود أية خطط لتغييرات سياسية تفرض عليه، وأيضاً تركيبته الدّاخلية القائمة على اعتماد الشّرع الإسلامي، والتي جعلت بعض المعترضين عليه أو المعتقلين لديه، الذين أفرج عنهم من غير السوريين، يعودون إلى بيت طاعته عندما لاحظوا أن الحراك انتقل من الاعتراض والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين إلى المطالبة بتداول السّلطة وبإبعاد الجولاني عن قيادة وتوجيه الحكومة وأحياناً بسقوط الجّولاني مقارنة ببشار الأسد، وبانتخاب مجلس شورى ومجلس قيادة للمناطق المحررة، أي ان تبقى السّلطات العسكريّة في يده ويبتعد هو والهيئة عن السّلطة التّنفيذية الحكومية. ولا ننسى أن تركيبة منظمات الجّولاني هي تركيبة ليست سوريّة فحسب، حيث يقدر عدد المقاتلين العرب من تونس ومصر وغيرهما بحوالي خُمس المقاتلين لدى الجولاني، وهؤلاء المقاتلين”غير السّوريين” لا أفضلية لديهم غير طاعة الحاكم لبناء الدّولة الإسلامية باعتبار أن لا ارتباط لهم بمعاناة السّكان السّوريين.

يمكن فهم حراك إدلب بالعودة إلى ذكريات الصّراع مع نظام الأسد التي لا تزال محفورة في الأذهان، ذكريات الاعتقال العشوائي والتعذيب والمداهمات وعدم احترام الحرمات والضوابط الاجتماعيّة، ففي العام الماضي نفذت” هتش” اعتقالات واسعة يقدرها البعض بحوالي ألف شخص من مدنيين وعسكريين ورجال أمن بتهمة العمالة لروسيا ونظام الأسد، وتهمة العمالة هي التّهمة المفضلة أيضاً لنظام الأسد، وعندما تم الإفراج عن قسم منهم ظهرت نفس فضائح نظام الأسد من حيث إجبار المتّهمين على الإدلاء باعترافات كاذبة تحت التّعذيب، ورغم اعتراف الجّولاني بذلك فيما بعد واعتقال بعض المسؤولين عنه، فإن القصّة لم تنته وعاد الاعتقال من جديد للناشطين في الحراك وبنفس الطرق المُهينة وتم توجيه تهم خطيرة لهم بتوزيع السّلاح. من الصعب القول أن الحراك يمثل الجميع لكنه حقق حتى الآن انتشاراً جغرافياً معقولاً واستمراريّة وتنظيماً ورغبة بالتّحول نحو نظام سياسيّ أكثر تشاركية وبدون استبداد فردي وذلك يبدو حتى الآن من خلال منظومة مصطلحات إسلاميّة تتخللها مطالب تنتمي لمنظومة ديموقراطيّة حديثة.

أما حول طريقة استجابة الهيئة وزعيمها فقد لا تتطابق تماماً مع ما تراه المخيلة الشّعبية مشتركاً بين نظام الأسد وبين نظام الجّولاني وربما تصنع بعض الفرق بينهما، فقد عقد الجّولاني اجتماعاً مع بعض الوجهاء وأعضاء من مجلس الشّورى وحكومة الإنقاذ من عدة مناطق وبلدات قدموا فيه مطالب المتظاهرين ووعد بتحقيق المطالب والبدء بتنفيذها كما عقد اجتماع آخر مع صحفيين وناشطين أيضاً لنقل مطالب الشارع، هنا نعود للتأكيد أن هذه الطريقة قد تخفف الاحتقان الشّعبي وتحقق بعض المطالب مثل الإفراج عن بعض المساجين، ولكن ليس تبييض السّجون، وتحقيق بعض المطالب الاجتماعيّة والاقتصاديّة مثل إنشاء ديوان لرد المظالم، ولكنها لا يمكن أن تمس جوهر سيادة الجّولاني وهيئته بقبول مجلس أعلى لقيادة الثّورة أو مجلس شورى منتخب بشكل حقيقي أو الفصل بين السّلطات أو حل جهاز الأمن العام، ناهيك عن عزل الجّولاني وانتخاب بديل “يعمل وفق شرع الله” كما يطالب بعض المتظاهرين.
طرح بعض النّاشطين ما أسموه “مبادرة الصّلح العام” التي تتضمن سحب العناصر العسكريّة للهيئة وتعليق المظاهرات والجلوس إلى طاولة حوار لكن طريقة التّعامل مع المتظاهرين لا تزال عنيفة، مع ذلك و أمام عدم وجود إمكانيّة فعليّة لإسقاط الجّولاني ووجود بديل منظم،فإننا في “تيار مواطنة” نرى أنه لا بد من المحافظة على سلميّة الحراك، وتطوير شعاراته ومواقفه والاستفادة من تجربة الحراك السّلمي في السّويداء بحيث يبقى الحراك المتواصل، عاملاً فاعلاً وضاغطاً لتحقيق الرقابة الشّعبية على السّلطات المفروضة، وعدم تحويل الصّراع مع الهيئة إلى صراع ديني وعدم التّفكير بحله من خلال مفاهيم المنظومة الدّينية المتخيلة وغير القابلة للتطبيق في عالمنا المعاصر. ولابد أيضاً من التفكير بحل مشكلة إدلب من خلال حل سياسي لسّورية بأكملها وتحقيق الانتقال السياسي وفق القرارات الدّولية وخاصة 2254 .
نعم لرفع القبضة الأمنية والاعتراف بحق التظاهر والإفراج عن المعتقلين وخاصة من نشطاء الحراك ومواجهة الفساد خاصة على المعابر والعمل على تحسين الوضع الاقتصادي للناس والقيام بإصلاحات حقيقية لضمان مشاركة المواطنين في صنع حاضرهم ومستقبلهم السياسيّ، ونحن نهيب بشبابنا الوطنيّ الديموقراطيّ الوقوف مع هذه الانتفاضة ودعمها ومحاولة توجيهها باتجاهات وطنيّة بعيدة عن التطرف وقطع الطريق على بعض الأصوات المتطرفة فيها والتي بدأت جماهيرنا بفقدان الثّقة فيها، كي تلاقي الحراك الوطني في السّويداء وأية أماكن أخرى لتشكل معها نهجاً ثوريّاً متكاملاً، كما نحذر “هتش” من مواجهة هذا الحراك السّلمي بالعنف حيث تستمر حملة الاعتقالات ضد المتظاهرين السّلميين، ونأمل أن لا تستطيع جرهم الى مواجهة مسلّحة علماً أن “هيئة تحرير الشام” لم تستجب إلا جزئياً للمبادرات التي تم إطلاقها لوقف الحراك وهي تعتبر أن ما قامت به من إصلاحات يعتبر كافياً وقد حققت معظم مطالب المتظاهرين.

مكتب الإعلام في “تيّار مواطنة” 01/06/2024

Loading

الكاتب wassim hassan

wassim hassan

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة