مصر والحاجة الى ثورة جديدة ـ حازم نهار
لا يمكن لمن يقف مع الخيار الديمقراطي كأساس مركزي في بناء الدولة والحياة السياسية إلا أن يقف من حيث المبدأ مع تظاهرات 30 يونيو في مصر، وينظر إليها بوصفها حلقة من حلقات الثورة المصرية التي ابتدأت يوم 25 يناير 2011، وذلك على الرغم من تدخل الجيش المصري بانقلاب عسكري لحسم الأمور.
وهذا الفعل العسكري الانقلابي كان يمكن تبريره، بخاصة أنه جاء تالياً لتظاهرات واسعة وانسداد في الأفق السياسي، لو وقف عند حدود المطالب المشروعة التي أعلنت عنها التظاهرات: إجراء تعديلات على الدستور المصري كي يكون معبراً عن كل المصريين وليس عن جماعة الإخوان فحسب، بما يفضي إلى بناء دولة وطنية ديمقراطية، وانتخابات رئاسية باكرة بحكم فشل إدارة الرئيس مرسي في إنجاز تقدم اقتصادي، إضافة إلى حق القوى والفئات التي لم تشارك في الثورة آنذاك بالعودة للساحة والمشاركة السياسية، باستثناء الفلول التي دعمت نظام مبارك وكانت جزءاً منه. يضاف إلى العناصر المبرِّرة لقبول الانقلاب أن الشرعية التي تحدث عنها مرسي كانت ناقصة أصلاً بحكم أن الدستور المصري لم ينجز على أساس عقد اجتماعي وطني أو توافقي، فكان معبراً عن جماعة دون غيرها.
لكن ما حدث بعد 30 يونيو وحتى اليوم لا يصب إلا في إطار الانقلاب على ثورة 25 يناير ذاتها، وعلى المطالب التي أعلنت كاستكمال للثورة في تظاهرات 30 يونيو، بل وعلى الربيع العربي بأكمله. وكان يمكن لو توافرت الحكمة في الأداء أن تكون مرحلة ما بعد 30 يونيو متقدمة على صعيد ثورة الشعب المصري، فيما هي تبدو انتكاسة خطرة اليوم.
من الدلائل على هذه الانتكاسة احتجاز الرئيس المصري الأسبق وتوجيه تهم مثيرة للسخرية له، اعتقالات واسعة في صفوف جماعة الإخوان، إغلاق قنوات إعلامية خارج إطار القانون، محاولة إجراء تعديلات دستورية خارج إطار التوافق الوطني وعبر لجنة دستورية غير منتخبة، إعلام مصري رسمي مسف يحاول شيطنة الخصم السياسي، تنصيب رئيس مصري شكلي يغطي الحاكم الفعلي (العسكر)، وتأجيل الانتخابات الرئاسية، وصمت القوى التي تدعي “العلمانية” و”المدنية” عن كل ما يجري.
جرى احتجاز الرئيس المصري لمدة 25 يوماً من دون تهم واضحة إلى أن خرج العسكر بتهمة “التخابر مع حركة حماس”، وهي التهمة غير الموجودة إلا في إسرائيل، فضلاً عن أن التهمة وجهت لرئيس جمهورية وليس لفرد عادي، بما يعني أن مهام رئيس الجمهورية تنحصر في التواصل مع عائلته وأصدقائه وجيرنه، وفقاً لهذه التهمة. هذا إن لم نقل أن المخابرات المصرية ذاتها كانت على تواصل مع حركة حماس طوال عقد من الزمن على الأقل، أو أن تواصل شخصيات عديدة مع إسرائيل بات على ما يبدو أمراً مقبولاً في حين أن التواصل مع حماس ممنوع.
هذا يعني أن القضاء المصري المعروف باستقلاليته قد أصبح بدرجة أو أخرى تحت سلطة العسكر، في الوقت الذي كانت فيه إحدى الانتقادات على مرسي محاولته تحويل القضاء إلى أداة بيد السياسة، والمثير في الأمر أيضاً أن القاضي الذي اتهم مرسي بالتخابر مع حماس هو نفسه من قال عن ثورة 25 يناير أنها “فتنة” بحسب ما نقلت الفينانشال تايمز. ومن جانب آخر، ربما على القضاء المصري، والقضاء في بقية الدول، اعتقال نصف قادة العالم على الأقل الذين يتواصلون مع حركة حماس، كي تصبح هذه التهمة مفهومة، وإلا من غير الطبيعي أن يتفرد القضاء المصري بهذه العبقرية. ألا يوجد في كل مصر من هو قادر على العثور على حجة أقل غباء وأقل استغفالاً لعقول البشر من هذه التهمة المعلنة؟
ما بعد 30 يونيو خرج إلى العلن خطاب إعلامي مسف يتفوق على إعلام مبارك بدرجات، يقوم على التحريض وإشاعة حالة عدائية وشيطنة الخصم السياسي، وإثارة هيستريا جماعية، ونشر الأكاذيب والشائعات، وسيطرة حالة غوغائية على الحوار السياسي، وظهرت مفردة “الإرهاب” وأصبحت عنصراً طاغياً في خطاب العسكر والأمن و”المثقفين” وقادة الأحزاب، وهي المفردة التي يباح معها كل شيء، وليظهر قائد الجيش مؤخراً ويطلب من المصريين الخروج إلى الشارع لإعطائه تفويضاً بمحاربة الإرهاب أو بالأحرى إنهاء تظاهرات الخصوم السياسيين.
اللافت للنظر هو خطاب القوى الرافعة لشعارات المدنية والعلمانية، والتي لجأ “قادتها”، في محاولة لتغطية العجز السياسي والهامشية المزمنة في آن معاً، إلى الاختباء وراء خطاب غوغائي، ظاهره يعلي من شأن “الوطنية المصرية” وباطنه ينضح بالشوفينية العصابية، وفي هذا السياق يأتي تبجيلهم وتقديسهم للجيش المصري في معركة سياسية داخل الوطن وليس في مواجهة عسكرية مع عدو خارجي، فضلاً عن الانضواء في مهرجان “مكافحة الإرهاب”، وهي المقولة التي أصبحت منذ زمن على لسان جميع المستبدين في الشرق والغرب لإخضاع المجتمعات ومصادرة الحريات.
لم تكن تجربة “العلمانيين” في المنطقة العربية، على الأخص القوميين والشيوعيين، مع معتقداتهم ومقدساتهم مختلفة عن تجربة الإسلاميين المتشدِّدين، فلكل طرف مقدساته ومسلماته ونصوصه المبجلة، بما يعني أن هناك علمانية عقائدية أصولية لا تختلف من حيث الجوهر عن الإسلام الأصولي، فالطرفان ينهلان من نبع الاستبداد والجمود الفكري ذاته، لذا فإن كل التصنيفات السائدة اليوم ما بين علمانيين وإسلاميين هي تصنيفات فارغة ولا معنى لها.
على العموم، فإن الاستبداد ما كان ليكتب له الاستمرار في الماضي لولا ولع القوميين والليبراليين والشيوعيين والإسلاميين به، وتوافر الاستعداد النفسي والفكري عند الأغلبية للتعايش معه. فهم، على ما يبدو، لا يدافعون عن الديمقراطية إلا عندما يكونون في المعارضة ومطاردين من حكم استبدادي. فالمواقف التي تبرر أو تشجع العسكر والأمن في مصر على ملاحقة الإسلاميين خارج دائرة القانون، والمواقف الصامتة إزاء تقويض المرتكزات البديهية للديمقراطية طالما أنه يأتي ضد الإسلاميين، تدلِّل من حيث الشكل على الانتهازية السياسية، وتؤكِّد من حيث الجوهر على نقص في التركيبة الأخلاقية والإنسانية من جانب، وعلى ضحالة الرؤى الفكرية الاستراتيجية من جانب ثان، وهما الجانبان الضروريان اللذان يؤسِّسان لكل رؤية ديمقراطية صائبة وأصيلة. يخطئ من يعتقد أن الفعل السياسي يمكن أن يسير في اتجاه صحيح من دون جناحي الفكر والأخلاق، فهذا النقص في الفكر والأخلاق لدى من يطلقون على أنفسهم “علمانيين”، سوف ينعكس عاجلاً أم آجلاً بشكل كارثي في الحقل السياسي.
الغريب أن الأخطاء الحاصلة خلال حكم مرسي والإخوان تتكرر اليوم بصورة أكثر فجاجة في ما يتعلق بالإقصاء وبناء الدستور الوطني، وزاد عليها العسكر أخطاء أخرى حتى لم يعد بالإمكان مقارنة أخطاء عام كامل بالكوارث التي أنجزها العسكر خلال شهر واحد. ويبدو أن سياسة الغباء والغرور، أو سياسة غ-غ، التي سار فيها النظام السوري وأنتجت بلداً محطماً وكوارث لا تضاهى، قد أصبحت مدرسة يقتدي بها جنرالات العسكر في مصر، وبمباركة من جنرالات العلمانية.
كل ذلك يعني أن الأهداف التي خرج المصريون من أجلها يوم 30 حزيران لم تتحقق، وغير ممكنة التحقق في ظل استمرار السياسات القائمة، وهنا سنكون أمام احتمالين، إما الذهاب نحو إعادة إنتاج نظام ما قبل ثورة 25 يونيو بحلة جديدة، وحدوث مواجهات مجتمعية كارثية بالتالي، أو حلقة جديدة من الثورة المصرية تضع مسألة التوافق الوطني والآليات الديمقراطية أساساً لمصر الجديدة.
الاربعاء 31/07/2013, المدن