عالم ينهار..عالم ينهض ـ علي العبد الله

مقالات 0 admin

في الوثائق التي افرجت عنها اسرائيل بعد عقود، تقدير موقف اسرائيلي حول الحرب المحتملة مع العرب تضمن نظرة عميقة الى الواقع العربي آنذاك. فقد أشار التقدير الى ما اعتبره ركيزة التفوق الاسرائيلي وهي “ان المجتمعات العربية تفتقر الى ثقافة خاصة بالتعاطي مع الحروب وويلاتها ونتائجها على الارض والإنسان”. قال:”لقد كانوا سادة في الدولة العباسية فأسسوا جيوشا من الاطراف (الفرس والترك والكرد) ولم يعيشوا التجارب ويؤسسوا لثقافة وتقاليد خاصة راسخة وعميقة في هذا المجال، وأبُعدوا عن الصدارة في الدولتين المملوكية والعثمانية وعاشوا حياة هامشية فأصبحوا بلا تجارب وبلا خبرات، مجتمعات مترهلة وعلى حافة الانهيار. لذا فإنها لن تستطيع خوض حرب كبيرة، والتكيف مع تطوراتها والتعاطي مع تبعاتها من قتل ودمار”.

وقد ثبتت صحة هذا الاستنتاج في حروب عربية اسرائيلية لاحقة( 1948 و 1967 و 1973) حيث تعرضت المجتمعات العربية المشاركة في الحرب مباشرة( فلسطين، مصر، سوريا، الاردن) او القريبة منها جغرافيا (لبنان، العراق) الى خضات كبيرة: انفرط عقد المجتمع الفلسطيني، وتهدد استقرار وتماسك مصر وسوريا والاردن، وقد تجسد ذلك في نزوح سكان مناطق واسعة(سيناء ومدن قناة السويس، الجولان، الضفة الغربية)، حتى البعيدة عن ساحات المعارك، في مدينتي دير الزور مثلا تركت اسر كثيرة فيها المدينة وهربت الى الأرياف، ناهيك عن تصرفات المواطنين ازاء احتياجاتهم اليومية حيث برز سلوك هستيري لشراء وتخزين المواد الغذائية والوقود الى درجة تحوله الى نوادر منها ما شاع في دمشق عن أسر ملأت بحرات وسط الديار، كما يقال في دمشق، بالمازوت وتسربه منها لان فتحة تصريف الماء لم يحكم اغلاقها.

كان الأستاذ جمال البنا (رحمه الله) قد وزع المسؤولية على الطرفين(القادة والشعوب) واعتبر سبب الانحلال طغيان القادة واستخذاء الشعوب. فالظلم والقهر وغياب العدل والمساواة بين المواطنين طوال عهود النظام السلطاني كسر روح الانسان العربي ودمر قيمة الحرية في وجدانه وحوله الى نكرة لا احترام ولا قيمة مع انعدام الاحساس بالذل والمهانة.

وكان الامام محمد عبده قد سئل يوما عن السر في هزيمة جيش احمد عرابي امام الانكليز في معركة التل الكبير بهذه السهولة؟ فرد قائلا:” لقد عاش المصريون خمسة وسبعين عاما تحت الاحتلال الفرنسي استمرؤوا فيها الذل والخنوع، وقد واجه جيش عرابي قوات الانكليز وأفراده بهذا المزاج فانهزم دون ان يشعر أفراده بأنهم خسروا شيئا او تنازلوا عن شيء، فقد كانوا فاقدين لقيمة الكرامة وهذا جعلهم لا يشعرون بأنهم سيخسرون شيئا من توليهم الأدبار في الحرب”.

وقد ورد في كتب التاريخ ان امبراطور المانيا غليوم الاول سأل مستشاره هل يغزو الاستانة أم يغزو باريس فأجابه:”انك اذا غزوت الاستانة فسوف يواجهك جيش قوي سيرهقك لكن اذا تغلبت عليه فانك ستستمر في حكمها الى فترة طويلة لان شعبها لن يقاومك فقد دمرت السلطة المستبدة روحه. اما اذا غزوت باريس فانك ستجتاحها بسهولة لأن جيشها متهالك لكنك لن تستقر فيها لأن شعبها الذي تربى على الحرية سيقاومك ويخرجك منها”.

لقد مر على العرب حين من الدهر لم يعرفوا للحرية في بلادهم طعما ولا للكرامة لونا فقد نجح خلفاء التغلّب وولاتهم في قهر انسانيتهم وتحويلهم الى الضعف والخذلان والرضوخ والتذرر الاجتماعي فغدت حياتهم اقرب الى البهيمية منها الى الحياة الانسانية جسدها كلام زياد بن أبيه، والي بني امية على البصرة، فقد سأل جلساءه من أسعد الناس؟. فلما لم تعجبه أجوبتهم قال:”أسعد الناس من له امرأة يحبها وتحبه وله بيت يأوي اليه، ومال يغنيه عن السؤال، ولا نعرفه ولا يعرفنا لأننا اذا عرفناه وعرفنا أفسدنا عليه دينه ودنياه”. وقد افرز الظلم والقهر حالة من الضعف والهوان بلغت حدودا غير معقولة فقد اوردت كتب التاريخ العربي روايات عن اجتياح المغول لبغداد وانهيار المسلمين الكامل امام زحفهم وعجزهم عن التصرف كبشر. ومما قيل ان جنود المغول كانوا يمسكون الرجل ويسألونه عن اسرته فيذكر لهم افرادها فيطلبون منه احضارهم كي يقتلوهم معه فيذهب ويحضر اسرته فيقتلون جميعا.

غير أن صورة العرب هذه لم تبق كما هي فقد نجح الشعب الفلسطيني في كفاحه لاستعادة ارضه المغتصبة وإقامة دولته الخاصة في كسر هذه الصورة النمطية. فالشعب الذي ترك أرضه وأملاكه وحياته الاجتماعية وانفرط عقده بين النزوح واللجوء عاد عبر تشكيل حركات مقاومة ومنظمات مجتمع مدني، وسط حواضن شعبية عريضة وعميقة، الى ساحة المواجهة لاسترداد كرامته اولا ثم ارضه وحقوقه السياسية ثانيا. وها هو ذا يخوض صراعا ممتدا منذ عقود دون كلل او تذمر من الاثمان الباهظة التي يدفعها من أرواح ابنائه ومقدراته المتواضعة، ماليا واقتصاديا، يواجه قوى عظمى تدعم عدوه الإسرائيلي، يعاكس الريح الدولية والإقليمية بإصرار، يواصل الكفاح من اجل هدفه في الحرية والخلاص، وقد نجح في العودة الى المسرح السياسي كرقم في معادلة الصراع على فلسطين، ووضع قضيته وحقوقه على جدول اعمال المجتمع الدولي.

والشعب العراقي الذي زّج به صدام حسين في حرب ضروس مع ايران استمرت ثمانية سنوات اُزهقت فيها ارواح مئات آلاف الجنود والمدنيين ودمرت احياء وبلدات وقرى، حتى نخله الشامخ انكسر كبرياؤه، أبقى على روحه العامة وعلى تماسك كيانه الوطني، خرج مثخنا بالجراح لكنه بقي واقفا يتطلع الى المستقبل بأمل. لا يغير من النتيجة كون الحرب عادلة او غير عادلة، فالشعب قد نجح في معركة الصمود في مواجهة المخاطر والصعاب والتكيف مع الحرب وويلاتها ونتائجها.

وقد كرر الشعب اللبناني التجربة ونجح في مقاومته الوطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي لأجزاء من أرضه التي أطلقتها الحركة الوطنية ولعب فيها الشيوعيون دورا تأسيسيا ومتقدما قبل ان تقرر ايران والنظام السوري تطويب القتال ضد الاحتلال لحزب الله ( ذكر الشهيد جورج حاوي ان المقاومة الوطنية نفذت 125 عملية عسكرية ضد الاحتلال قبل دخول حزب الله المعركة) الذي انجز عملية تحرير معظم الارض اللبنانية.

مع انطلاق ثورات الربيع العربي دخل العرب مرحلة جديدة أطلق شرارتها محمد بوعزيزي عندما اوقد النار في جسده يوم(17/12/2010) احتجاجا على الذل والمهانة التي لحقت به وتعبيرا عن إعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية، تلك القيمة الاساس التي ميز الخالق الانسان بها، فأطلق جموع الشعب من رقدتها: ملايين النساء والرجال والشيوخ والأطفال، انبعثت من قنوطها واستسلامها للقوة والقهر وغادرت خنوعها وخضوعها وانخرطت في الصراع، وقد أظهرت افضل ما فيها: استعدادها للتضحية من أجل تحقيق الحرية والكرامة، فتخلصت تونس من الاستبداد، وانتقلت الشرارة الى مصر يوم(25/1/2011) فأشعلت جماهير المدن والبلدات والقرى والكفور والنجوع، اهتزت الارض تحت الاقدام والسماوات بهدير الحناجر، امتلأت الساحات والطرق والدروب بالملايين خرجوا ليعيدوا الى الكون توازنه والى الحياة رونقها فاقٌتلع نظام الاستبداد والفساد، ولما احسوا ان العهد الجديد يتجاهل معنى ما حصل في الثورة وبدأ يعيد انتاج القيود والحدود، وانه يقودهم الى الاسر والمهانة من جديد، الى الذل والعبودية متسترا بالدين، دينهم الذي يتبعون ويقدسون، خرجوا قبل ان يكمل اعادة انتاج القيود والحدود والظلم والقهر ويسورها بالقداسة، خرجوا بالملايين( تقول التقديرات ان عدد الذين نزلوا الى الشوارع في كل مدن وبلدات وقرى مصر يوم(30/6/2013)تراوح بين الـ 20 و الـ 30 مليون انسان) ليدمروا هيكل الذل قبل ان يستوي على سوقه ويستقر الطاغية على عروشه.

وانتقلت الشرارة يوم(15/2/2011) الى ليبيا التي كانت تجربتها الأشد تعبيرا عن التحول الذي حصل في مزاج الشعب العربي: شعب أعزل اعتقد الطاغية انه انجز عملية تدجينه وخصائه، وانه نجح في تحويل أرضه الى مزرعة خاصة له ولبنيه من بعده، مزرعة تعج بالعبيد والخصيان والنخاسين يسوقونهم الى الخدمة والخضوع والركوع للقائد، ما جعل رد فعله على التحرك الشعبي هستيريا، قريبا من الجنون، فأستنفر طاقات الدولة وإمكاناتها لسحق الثورة لكن الثوار تمسكوا بحقهم في الحرية والخلاص وقاتلوا في ظروف صعبة ودفعوا اثمانا من أرواح أبنائهم ومن مدنهم وبلداتهم وقراهم وطلبوا العون من المجتمعين العربي والدولي لأن حريتهم تصب في صالح نمو وتطور الحرية في العالم، وحققوا النصر وأسقطوا الطاغية وأسرته الفاسدة وزبانيته المجرمين.

وها هو ذا الشعب السوري يكرر الملحمة عبر مقاومته عدوان النظام عليه بعد نهوضه مطالبا بحقوقه يوم(18/3/2011) فقد خرج بعد عقود على الرضوخ والمهادنة والاستسلام للقهر والبطش ونهب الحقوق واستلاب الكرامة. خرج كي يزيح ركام الظلم والقهر والهوان عن كاهله، ويمسك بيديه قدره ومصيره الذي تركه للطغاة والقتلة والفاسدين يصوغونه بالطريقة التي يريدون ويبددونه بالشكل الذي يقررون. خرج وأجترح المعجزات في التضحية والفداء والتحمّل: قتلى بمئات الآلاف، أسر أٌبيدت بالكامل، ومفقودون لا يقلون عن ذلك عددا، جرحى ومعطوبون، ومعتقلون، نازحون ولاجئون بالملايين، بيوت مدمرة، مدن وبلدات وقرى غدت لا تصلح لعيش الإنسان. شعب تكالبت عليه دول، وأستغلت جرحه النازف أخرى، وهو صامد، شهيد لا يريد أن يدفن، وجريج يغالب وجعه، ومغتصبة تلم شتات روحها، ينهض من رماده كطائر الفينيق متطلعا إلى الفجر القادم على أجنحة أرواح الشهداء ودماء الجرحى وأنين الثكالى والمحرومين من شربة ماء وكسرة خبز، فجر مصبوغ بالدم لكنه مفتوح على الحرية والكرامة والخلاص.

لقد تقدمت الشعوب العربية خطوات إلى الأمام في معركة الخروج من حالة الذل والخذلان والتعايش مع الهزيمة عندما استعادت ثقتها بنفسها واحترامها لذواتها وتعاطت بإيجابية مع مسألة الموت من أجل الحرية والكرامة، وتحمّلت تبعات الحروب من أجل عزة الوطن والمواطن، وبدأت تغادر حالة انعدام الوزن، وما تحطيم أوهام العدو الصهيوني وداعميه في اغتصاب الأرض ونهبها دون خوف من حساب أو عقاب، وإسقاط انظمة الاستبداد إلا مرحلة على طريق النهوض الشامل.

سيكون للتحول الذي حصل في ثقافة المجتمع العربي في مواجهته للصعاب وتعاطيه مع الحروب وويلاتها وتكيفه مع نتائجها من ضحايا ودمار، وقطعه مع ثقافة الرضوخ والاستسلام للمستبد والاستخذاء، دور كبير وواضح في ولوج التاريخ من موقع التمكن والسيطرة على الواقع والتحكم بالمصير وصياغة المستقبل.

 الاربعاء 31/07/2013, المدن

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة