عن “داعش”.. مقاربة ضد الاستبداد ـ ياسين سويحة
رغم تهافت جزء كبير من النقاش وانزلاقه إلى فولكلوريات ثقافويّة سطحيّة للغاية، إﻻ أن حقّ الضجّة حول “دولة العراق والشام الإسلاميّة” (داعش) بالوصول إلى هذا الحجم، وأكثر، ﻻ يُنكر. “داعش” هي وريثة “جبهة النُصرة” في الموقع الجدلي، رغم أنها قطيعة شبه انقلابيّة عليها، ليس فقط من حيث استحواذها على المقاتلين الأجانب المحترفين، بل أيضاً ﻷنها أنهت حالة الغموض والضبابيّة السياسيّة التي ميّزت “جبهة النصرة” منذ تشكيلها، طارحةً مشروعاً سلطويّاً شرهاً ومتعجرفاً في المناطق “المحررة” حيث تُهيمن، وحدها أو بالشراكة، على سلطة السلاح. مشروع يمزج ديكور التقشّف والزهد الجهادي مع، مثلاً، اﻻستحواذ على أفخم مبنى في محافظة الرقة، وهو مبنى “دار الحكومة”، واتخاذه مقرّاً. وقد كلّف بناء “دار الحكومة”، قبل بضعة سنوات، حوالى 330 مليون ليرة سوريّة (أقل من سبعة ملايين دولار بقليل، آنذاك) في مدينةٍ تفتقر أحياءٌ كثيرة فيها لشوارع مُعبّدة وصرف صحّي.
الاتفاق، إذاً، على خطورة الظاهرة وضرورة التصدّي لها قائم، لكنّ “داعش” ﻻ تستحق أن تُقاوم وحدها وكأنها ظاهرة منفصلة عن التاريخ ومنبثقة من العدم، أو كأن ظاهرها المتطرّف دينياً هو كلّ جوهرها، على ما يظهر من مقارباتٍ “علمانيّة” كثيرة. الواقع أنّ “داعش” هي، رغم جدّيتها وخطورتها كظاهرة، خيالٌ اختصاري، فانتازي- كاريكاتوري، في مرآة لما كان راهناً في سوريا وفي غالبية الدول العربيّة: “دولة قويّة”، ملتفّة حول جهاز عسكري- قمعي ومربوطة بإجماعات قسريّة يُدّعى أنها مستقاة من جوهر طبيعة وثقافة الشعب، وبالتالي هي من البديهيّة بحيث ﻻ يُناقشها أو يُشكك بها إﻻ ضعفاء اﻻنتماء (الوطنيّة، الدين..).
ليست “داعش” إﻻ إعادة إنتاج هزليّة (والهزليّة، نكرر، ﻻ تنتقص من خطورة الظاهرة) للنظام اﻻستبدادي بشكلٍ يُذكّر بتلك المقولة الماركسيّة عن تكرار التاريخ لنفسه، مرّة كمأساة ومرّة كمهزلة، مع أننا نعيش خليطاً من كليهما منذ عقود. إيديولوجيا “رسميّة”، ونظام قمعي يحتقر المجتمع، ذو عنف بنيوي قائم على التشكيك بانتماء الناس (مجدداً: الوطنيّة، الدين..) ومدّعٍ ومحتكر للحقّ المزعوم بـ”تربية” المجتمع، الذي تُفترض له نزعات منحرفة أو مُتخلّفة ﻻ تُعدّل إلا بقمع “الدولة”. ﻻ فرق يُذكر بين مناهج التثقيف الحزبي وسوق الناس كالقطيع ليهتفوا للقائد شبه الإله وبين الكُتيّبات التي توزعها “داعش” على الناس وامتحان معرفتهم لأركان الدين، مثل عدد ركعات الصلوات، في الحواجز أو عند “المُراجعة الأمنيّة”.
شيوع اللثام والقناع بين عناصر “داعش” وغموض شخصيات قيادييه يتعارض، من حيث المبدأ، مع هوس البروز لدى قيادات الاستبداد الكلاسيكي العربي، لكنّ ليس هذا التعارض إﻻ برهاناً على مقدرة البُنية اﻻستبداديّة على التخلّي عن فلكلور تأليه الفرد من دون خسارة شيء من عنفها الرمزي. تأليه الفرد ليس إﻻ طريقة واحدة من ضمن عشرات الطرق التي يمكن للاستبداد أن يُعبّر عن نفسه فيها.
هذه المقاربة قد تسمح بفتح عدسة مُلاحظة الظاهرة أبعد من انحيازات إيديولوجيّة تفاضل بين استبداد “حداثوي” وآخر “إسلاموي”، واﻻنتباه إلى الكيفيّة التي يُقاوم بها مُجتمع المناطق المُحرّرة اﻻستبدادات العديدة باستخدام أدواته، الخاصّة والبسيطة والقليلة، الناجية بعد عقودٍ من تصحير الشأن العام على يد النظام، أدواتٌ فيها القليل من الإيديولوجي والكثير من السأم من تسلّط من يتعالى عليهم ويفرض نفسه كمُمتحِن متعجرف وعُنفي. وقد تسمح هذه المقاربة أيضاً بالثقة بحيويّة المجتمع وقدراته، والتعاون معه انطلاقاً منها، بدلاً من التشكيك به والتقليل من شأنه بمقاربات ثقافويّة مُتعالية، أو ما هو أسوأ: التهاون مع مُعاداته باعتباره “بيئة حاضنة” ﻻ بأس من تعريضها للعنف ضمن حربٍ مُفترضة على “الإرهاب”.
الثلاثاء 30/07/2013, المدن