المثقفون الإنقلابيون موسى برهومة
إذا كانت مصاعب الحياة ومشاغلها تكشف معادن البشر، فإن الأزمتين السورية والمصرية كشفتا معادن المثقفين، وبخاصة أولئك الديموقراطيين والليبراليين منهم. لقد كشفت هاتان الأزمتان عن خلل فادح في الجهاز المفاهيمي الثقافي لدى نفر غير قليل من هؤلاء الذين كان بعضهم يتقدّم باعتباره رمزاً، ورائداً، وبعضهم الآخر ترك إرثاً معرفياً لا يستهان به أغلبه كان ينصبّ على رفض الاستبداد، والحكم المطلق، والانحياز لأوجاع الناس وتطلعاتهم ضمن أفق ديموقراطي تعددي يعلي قيمة الحرية والعدالة والكرامة.
وكمن يحلّق عالياً في منطاد أصابه ثقب فهوى وارتطم بالأرض، هكذا كان حال أولئك المترقبين لردود فعل جمهرة المثقفين «النوعيين، أو العضويين» تجاه طاغية، كحاكم سورية، يصح تشبيهه بـ «دراكولا العصر» ما انفكّ يبدع في قتل الآمنين، وتهشيم وجه المدن والمآذن والأضرحة والتاريخ.
ومن دون أن يرفّ لواحدهم رمش، تراه ينظّر للدفاع عن بشار الأسد وكوارثه غير المسبوقة، حتى على مستوى الخيال، باعتباره دفاعاً عن سورية في وجه «العصابات الإجرامية والجهادية والإرهابية»، وهي عبارات ببغائية يلوكها إعلام النظام وشبيحته وأشياعه، لكنها تجد مستقراً لها، ومن دون تمحيص، في أذهان مثقفين حبّروا أطناناً من الصفحات وهم يمجّدون حق الإنسان في العيش الكريم، والحياة الحرة الخالية من العسف والقتل والسجون وفقء الأعين وانتزاع الحناجر، وتكسير أصابع الرسامين، ومصادرة ريشتهم، وزجهم في غياهب العتمة والنسيان!
وعلى الضفة الأخرى من المشهد المصري، نجد حالاً لا يقل ضراوة عن الحال السوري، لجهة يقظة النوازع الاستئصالية في ذهنية المثقفين الليبراليين والديموقراطيين واليساريين الذي أضحى غالبهم لا يدعون، وحسب، لعدم التحاور مع الإخوان، أو التوافق على خريطة طريق تفضي إلى مصالحة مجتمعية تنهي الاحتقان وسفك المزيد من الدم، بل لإلقائهم في البحر.
إن نبرة هؤلاء المثقفين تكسوها مشاعر الغلبة، والرغبة في الانتقام، على ما يضمره هذان الشعوران من هدم للمعتقد الديموقراطي الذي يتأسس على قيمتي التعددية وحق الاختلاف. فلماذا جرى الانقضاض على هذه المفاهيم، لمصلحة الانتصار لحكم العسكر الذين يبدو تمددهم في المشهد المصري مما لا تخطئه العين، ويثير المخاوف من عودة القبضة الأمنية والدولة البوليسية العميقة؟.
ولعل أخطر ما يجري في مصر الآن، لا يكمن فقط في انحياز جلّ المثقفين الديموقراطيين من كتّاب وصحافيين وفنانين وإعلاميين وأكاديميين إلى ما يُعرف بـ «الانقلاب على الشرعية»، وإنما في تهدّم منظومة كاملة من القيم المدنية التي نهضت عليها ثورة 25 يناير التي أطاحت نظام مبارك، وبشّرت بعهد جديد لا مكان فيه للدولة العميقة، ولا لقبضة العسكر، ولا للإقصاء والتهميش وعزل الآخرين المختلفين، باعتبار أن تلك ممارسات مما جاءت الثورة للقضاء عليها.
بيْد أن الحاصل الآن أن الانقلاب في مصر ليس فقط «على الشرعية» كما يردد أنصار الرئيس المعزول مرسي، وإنما على الميراث الديموقراطي الليبرالي الذي أسسته المدنية المصرية طوال عقود، وأرسى دعائمه كوكبة من المثقفين، ورواد التنوير الذين يصعب، لكثرتهم، حصرهم في عجالة. لقد تمّ طيّ صفحة هؤلاء لمصلحة حفنة من الأفكار الذرائعية التي توهمت، لشدة انتهازيتها، أن التفويض الشعبي، وتجمّع الملايين في الميادين، يبيح إطلاق يد العسكر، أو حبس رئيس منتخب، أو قتل المتظاهرين، أو توظيف كل وسائل الإعلام من أجل شيطنة الخصم، وممارسة القهر النفسي عليه، وحماية الباطشين به مدنيين كانوا أم عساكر، وإخماد صوت إعلامه، وإطفاء أنوار منابره الفضائية، وتكميم أفواه كل من يدافع عنه من دون أن يصدر صوت محتج يصرخ في وجه هذا الإجحاف العميم: «كفاية»!
ومن الضروري، في غمرة الغلو العام والطامّ، أن يستدرك كاتب هذا المقال، فيؤكد أن دفاعه عن حق الإخوان المسلمين ومناصري مرسي في الاختلاف، وإتاحة حرية التعبير السلمي لهم، وحمايتهم بكل الوسائل اللائقة بالإنسان، لا يعني أبداً الاتفاق مع منهجهم في الحكم، وفي تدبير الأمور، ولا في إصرارهم العنيد على مقاومة أبجديات المنطق والتكتيك السياسي. وليس من المهم أن يفصح الكاتب عن آرائه الفكرية والأيديولوجية المناوئة لأطروحات المنتسبين إلى فضاء «الإسلام السياسي»، لكنّ من المهم أن يخرج صوت عاقل، فيذكّر من أشك أن تنفعهم الذكرى، أن الإخوان وأنصار مرسي ومن يملكون رأياً مغايراً لآراء العسكر والمثقفين الانقلابيين، هم من نسغ هذه الأرض، ومن ملح هذا التراب، ومن أجزاء هذا الجسد الذي اشتكى منه عضو، فلم يجد أحداً يتداعى له بالسهر والحمّى!
الحياة ـ ١ أغسطس ٢٠١٣