التطرف الأصولي في سوريا ـ ميشيل كيلو
لم يعد من الجائز الاستمرار في تجاهل ظاهرة الاصولية، التي تسبب أضرارا بالغة للثورة السورية وتخدم بصورة اساسية وجوهرية النظام في ما تمارسه من انشطة وتوجهات، تنصب بطريقة تكاد تكون حصرية على «الجيش الحر» والابرياء من المواطنات والمواطنين. وبما أنه لا يمكن أن نجمع تحت كلمة الاصولية العامة والفضفاضة كل من وما لا ينضوي في «الجيش الحر» او يتبع حزبا سياسيا، فإنه لا مفر من اجراء تمييزات وتصنيفات أولية ترفض خلط الاصوليات ورميــها في قــدر واحد، خاصة ان بينها ما هو من فبركة النظام السوري خلال عقود عديدة، مع ما يتطلبه ذلك من تأسيس وتشغيل منظمات اصولية يجب ان تنسب الى الثورة وأن تبدو كجزء منها، لدمغ ثورة الحرية بطابع أصولي وتشويهها، وبيعها إلى الدول والرأي العام العالمي بوصفها اصولية دينية ـ مذهبــية تصارع نظاما علمانيا، ذلك لأنه من المحتم أن يعني رفضها قبول النظام رغم قسوته، لكــونه اهون الشرين، ولأن وحشــيتــه ليســت موجــهة ضــد الغــرب، بينــما لا تعد الأصــولية الغرب بغير الغزو والعدوان. وكــنت قد حذرت قبل قرابة عام من هذه الحسبة الاستراتيجية للنظام في مقالة نشرتها «السفير»، قلت فيها إن الاسد يريد تخيير العالم بين نظامه و«القاعدة»، ويؤمن أن العالم سيختاره هو وسيرفض الاصولية، وانه سيخرج عندئذ منتصرا من معركته.
ثمة اسباب متنوعة تكمن وراء بروز الأصولية وتحولها إلى ظاهرة تتمدد أكثر فأكثر في بلادنا، وتحتل مساحات متزايدة في صحافة وإعلام العالم. هذه الأسباب يمكن إجمالها في ما يلي:
1- سياسات النظام التي قامت منذ اول يوم على تقويض وتدمير القطاع المدني في الثورة والضغط بالخيار الأمني ـ العسكري على قطاعها الأهلي، بقصد ارغامه على اللجوء إلى السلاح دفاعا عن نفسه في إطار ايديولوجيته التقليدية الولادة الطبيعية لقدر من الأصولية سيتكفل بتبديل طابع الثورة وحرفها عن الحرية كغاية وهدف، وتحويلها إلى ما خطط له النظام: صراع طائفي مذهبي يقف إلى جانبه فيه كل من يخاف الحكم الأغلبي، فضلا عن علمانيي المسلمين، الذين يمثلون قطاعا واسعا من مواطنات ومواطني سوريا، ويمكن أن يضمنوا له تأييدا شعبيا واسعا إن هم انحازوا إلى ما يسمونه اليوم «الأقليات». منذ بداية الثورة، لم يكن لسياسات النظام غير هدفين اثنين هما: توطيد وحدته على اسس متنوعة اهمها الطائفية، وتفتيت الشعب ولغمه بشتى أصناف التطرف والأصولية، لتحويل الثورة من نضال حر، سلمي ومجتمعي عام، إلى اقتتال طائفي الهوية، يتسم بقدر من التطرف يبرز معه الأكثر على حساب الأقل تطرفا واصولية، مع ما ينتج عن ذلك من تمزق عنيف في الشعب وتبدل متعاظم الجذرية في الثورة، يأخذها إلى عكس رهانها الأصلي: الحرية للشعب الواحد والدولة القوية التي لجميع مواطناتها ومواطنيها.
2- سياسات التلكؤ العربية والدولية، والسياسات المذهبية الإسلامية المتصارعة، المعتمدة إقليميا كايديولوجيات ترى في سوريا والمشرق ساحة لانشطتها المذهبية المتناقضة. اعطى التلكؤ العربي والدولي النظام الفترة الزمنية اللازمة لتحقيق خطته القائمة على تنظيم اقتتال اقلوي ـ اكثري يحل محل مبدأ الحرية الجامع، وها هو يمكنه من العمل لكسب عالم شرع يصدق أن المعركة في سوريا تدور بين نظام علماني وبين الأصولية القاعدية. اما الآلية التي ساعدت النظام على النجاح، فتكمن في موقف أميركي ـ غربي صدق الروس واعتقد مثلهم أن الثورة واجهة للأصولية الإسلامية، وأن اخذ مسافة منها سيتكفل بتمكين النظام من التصدي الناجع لها والقضاء على طابعها الأصولي، بينما كانت الحقيقة في مكان آخر: فقد أدت السلبية التي اعتمدها الغرب واميركا إلى منح النظام ما يكفي من وقت وأدوات لبلوغ هدفه: خنق صوت الحرية تحت أمواج متلاطمة من طوفان اصولي خانق، لم يغير ما وقع منه إلى اليوم سياسات الدول الغربية، او يجعلها ترى في إطالة احتضار سوريا سببا مباشرا لصعود الاصولية وتجذرها المتزايد، بينما كانت تدابيرها التصحيحية عرجاء وناقصة ومتأخرة عن الواقع ومساره. هذا المسار الذي كان يبلور قطبا اصوليا في مواجهة قطب النظام، زاد من أهمية حضوره وعجل في تخلقه ما ادلى به قادة اميركيون وغربيون من تصريحــات ضخمت حــجمه وبالغــت في خطره، وفي ما املاه من سياسات عليهم زادت من المسافة التي اخذوها حـيال الصراع بدل أن تدفع بهم إلى العمل لإحداث تأثير مباشر عليه، حتى بدا وكأن الغرب يشارك النظام في سياساته ولا يفهم مقاصده في ما يفعله، ويعالج المشكلة بنتائجها لا بأسبابها. واليوم، يتصرف العالم الغربي وكأنه بوغت بوجود الأصولية في سوريا، ويتكلم وكأنه لا يعرف ما حدث، ويمعن في سياساته اللحاقية، الخالية من أي بعد استباقي، ويعرج بتثاقل وراء الوقائع، ملقيا بكامل المسؤولية عما جرى على غيره. في حين تستعر نار أصولية طائفية هوجاء تمدها إيران بالحطب البشري الضروري لاستمرار اشتعالها وتصاعده.
3- حجم الكارثة المرعبة التي حلت بشعب خرج في تظاهرات سلمية مطالبا بحريته، لكنه قوبل بطوفان من الرصاص والقنابل والصورايخ، وتعرض خلال زمن صار يبدو بلا نهاية لعنف لم يكن يخطر ببال احد منه، ووجد قراه ومدنه وبلداته تسوى بالارض، بينما تعرض لعملية تمزيق عنيف وغير مسبوقة في تاريخه القديم والحديث طاولت كل خلية في جسده التاريخي والمجتمعي، وادت إلى طرد ملايين منه الى خارج مواطنهم الأصلية، إضافة إلى تشريد جموع هائلة الأعداد منه تجبر اليوم على العيش في مخيمات جوع وبؤس ومرض وذل، لم يعد لديها من أمل في العودة إلى مواطنها غير قدر من العنف يدمر النظام الذي دمرها، فليس مهما في نظرها نوع هذا العنف وليست معنية بهويته، وكل ما تبتغيه ان يكون اشد من عنف النظام واكثر فاعلية وفتكا، ولا ضير عليه ان هو ارتكب افظع الجرائم، ان كان ضحاياه من الطرف الآخر: من النظام واتباعه، الذين ينخرطون بدورهم في عنف متعاظم الوحشية يعبر يوميا عن نفسه في مذابح يصعب إيجاد لغة تصفها، أليست هذه البيئة هي الحيز الملائم لانتاج أصولية معاكسة من جنسها، لا هم لها غير ان تبزها في العنف، خاصة انها تشارك النظام في سعيه المنهجي إلى القضاء على ثورة الحرية، وتتبنى مثله قدرا من العداء لها يتطلب إبادة اتباعها بلا تمييز او رحمة: لأنهم خصوم النظام؟
3/8/2013- السفير