الثورة السورية والآيديولوجيا- 2/9/2015
كان لافتاً قيام ثورة، كالثورة السورية، بلا آيديولوجيا، لكن سرعان ما ظهرت وبشكل خجول في البدء ثم بأقصى تعبيراتها وبشكل لم يرغبه معظم السياسيين التقليديين السوريين؛ فالأيديولوجيا هي النسغ المغذي للفاعلين في الثورات والانتفاضات والشأن العام زد على ذلك أن الأكثر راديكالية هو الطرف الأكثر جذباً، فهل تمثل “داعش” هنا المثال؟
الثورة السورية بدأت كانتفاضة عارمة، ثم تحولت إلى ثورة، لكن بقيت بلا رأس واحد، وهذا عيبها القاتل، فالرأس يعني العقل المدبر والبرنامج المرحلي واستراتيجية واحدة، والآيديولوجيا الإسلامية هنا عنت العديد من المدارس الفقهية والاجتهادات والقياس والتفسير المتباين. فهل نحمد الله على عدم اتفاقها؟!
إذن تعددت الرؤوس الإسلامية، وبالتالي تعددت البرامج وكل برنامج يستند إلى حالة محلية وضعية، بمعنى غياب البرنامج الإسلامي الواحد الذي يوحد جميع البرامج المحلية، الضرورية جداً من النواحي العملية والتمييزية، تحت مهمة مركزية واحدة تؤدي إلى توجيه البرامج المرحلية في خدمة المهمة المركزية وقيام دولة على برنامج إسلامي متفق عليه ضمن أنصار الدولة الإسلامية (دولة إخوان- خلافة…الخ)
والأيديولوجيا بالتعريف كما وردت في الويكيبيديا:
“الإيديولوجيا هي علم الأفكار وأصبحت تطلق الآن على علم الاجتماع السياسي تحديداً ومفهوم الإيديولوجيا مفهوم متعدد الاستخدامات والتعريفات؛ فمثلاً يعرفه قاموس علم الاجتماع بمفهوم محايد باعتباره نسقاً من المعتقدات والمفاهيم (واقعية وعيارية) يسعى إلى تفسير ظواهر اجتماعية معقدة من خلال منطق يوجه ويبسط الاختيارات السياسية / الاجتماعية للأفراد والجماعات وهي من منظار آخر نظام الأفكار المتداخلة كالمعتقدات والأساطير التي تؤمن بها جماعة معينة أو مجتمع ما وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية وتبررها في نفس الوقت.
والإيديولوجيا هي منظومة من الأفكار المرتبطة اجتماعيا بمجموعة اقتصادية أو سياسية أو عرقية أو غيرها، منظومة تعبر عن المصالح الواعية -بهذا المقدار أو ذاك- لهذه المجموعة، على شكل نزعة مضادة للتاريخ، ومقاومة للتغير، ومفككة للبنيات الكلية. إن الإيديولوجيا تشكل إذن التبلور النظري لشكل من أشكال الوعي الزائف.
في حين يعرف البعض الإيديولوجيا كقناع أو كتعارض مع العلمية أو حتى كرؤية للكون والقاسم المشترك بين هذه التعريفات أنها تطرح علاقة مركبة بين الواقع والإيديولوجيا فهي تعكسه وتحاول تسويغه أيضا والواقع ليس مجرد واقع مادي بل واقع اجتماعي نفسي روحي وهو واقع إلى جانب تطلعات وآمال.
إن الإيديولوجيا تقوم بدور الوسيط لأنها نسق رمزي يستخدم كنموذج لأصناف أخرى: اجتماعية ونفسية ورمزية وهي قد تشوه الواقع أو تخطئه لكنه تشويه يعكس حقائق معينة ويطمس أخرى لتوصيل رسالة معينة للمؤمنين بها.
فقدرة الإيديولوجيا تكمن في قدرتها على الإحاطة بالحقائق الاجتماعية وصياغتها صياغة جديدة؛ فهي لا تستبعد عناصر معينة من الواقع بقدر ما تسعى لتقييم نسق يضم عناصر نفسية واجتماعية ودينية.إلخ، مماثل للواقع الذي تدعو إليه الإيديولوجية.”
على كل حال سأعتمد مفهوماً للآيديولوجيا على أنها: التبلور النظري لشكل من أشكال الوعي الزائف. وبهذا يكون التعريف شاملاً للمدارس الأيديولوجية الثلاثة التي حكمت المدارس السياسية السورية منذ مطلع القرن العشرين وحتى الآن، مع بعض السمات الهامة والعامة لكل مرحلة من تشكل الدولة السورية.
منذ بداية القرن العشرين ظهرت المدارس التالية في الحالة السورية، وإن لم تكن سورية هي الحاضن الوحيد لهذه المدارس فإنها، أي هذه المدارس، قد انغرست عميقاً وأعطت هذه الأيديولوجيات خصوصية سورية يمكن أن نراها في سياق تطور الدولة السورية والأنظمة السياسية المتعاقبة والمعارضات الناشئة في كل مرحلة، لكنها ليست مهمتنا الآن.
– أولاً التيار الإسلامي: تشكل في ثلاثينيات القرن الماضي (مصر 1928- حسن البنا)، والذي اعتبر الأخوان في سورية جزء من التنظيم العالمي.
المرجعية الفكرية تعتمد على الدين الإسلامي وتعتبر التدرج في الأحكام حكمة من الحاكم، لكنها تعتبر القرآن والسنة النبوية مرجعية في التشريع وتقسم التنظيم إلى ثلاث سلطات:
أ. السلطة التشريعية من اختصاص مجلس الشورى
ب. السلطة التنفيذية من اختصاص المرشد العام واللجنة التنفيذية
جـ. السلطة القضائية من اختصاص المحكمة العليا ولها أن تقاضي الجميع بلا استثناء
– ثانياً التيار القومي (العربي): بدأت بوادره في الظهور مع نهاية القرن التاسع عشر، مع ما سمي بمشروع النهضة العربية، لكنه اقتصر على بعض الشخصيات المتعلمة والمثقفة، كحال جميع الدعوات الحديثة الظهور، واللافت بروز الشخصيات المسيحية، مما يعزى إلى مواجهة الإسلام والعثمانيين بفكرة القومية العربية كفكرة جامعة على أسس تعتبر تقدمية في حينها.
المرجعية الفكرية تعتمد على أن الدول تقوم وتتطور من خلال الرابط القومي الذي تؤسس له اللغة والتاريخ والأرض والمصير المشترك، وتعتبر المدرسة القومية نهوض أوربا عائداً إلى النهوض القومي وبالتالي يجب أن تقوم النهضة العربية على فكرة القومية العربية وليس على أي دعوة أخرى وخصوصاً الدعوات الدينية.
– ثالثاً التيار اليساري بكل تلاوينه الشيوعية والاشتراكية، حيث بدأ ظهوره في نهاية العشرينيات من القرن العشرين (الحزب الشيوعي 1932- خالد بكداش)، واستلهم الفكر الطبقي في مواجهة المدرستين السابقتين.
المرجعية الفكرية تقوم على الصراع الطبقي وحتمية انتصار الاشتراكية نتيجة التطور التاريخي للمجتمعات البشرية.
بقيت هذه المدارس الثلاث سائدة حتى نهاية القرن والمفارقة أن السلطة والمعارضة كانتا تستخدمان نفس العقائد/ الآيديولوجيات في صراعها مع خصومها السياسيين.
مع بداية القرن الجديد بدأت مدرسة سياسية جديدة تظهر، أفرزها إفلاس المشروعين القومي واليساري بشكل مباشر، وما يجمع أنصار هذا المشروع ثلاث نقاط:
– الفكر اليساري يعتمد على مقولات غير ناجزة في واقعنا السوري وبالتالي يجب تأسيس مفاهيم الدولة والسلطة من جهة والمواطنة والعقد الاجتماعي من جهة ثانية على أسس طبيعية وناتج تطور المجتمع الملموس وما كان ينقصنا هو الدولة “القطرية” بمعنى الدولة كاملة الأركان بدون بعدها القومي العربي أو الأممي الإشتراكي أو الديني الإسلامي.
– الفكر الديني أسّس للتطرف ولتشتت الهوية الوطنية للدولة السورية ويجب التعامل معه كهوية ثقافية وليس كمرجعية سياسية للحكم عدا عن بعده التمييزي بين المواطنين، بالتالي يجب إبعاد الدين عن الدولة وحصره في مراكز العبادة، ولهم في الحروب الدينية في أوربا أمثولة وفي علمانيتها قدوة تحتذى.
– العلمانية والديمقراطية أساسان لقيام الدولة على أسس اجتماعية وسياسية إنسانية، تؤديان إلى وضع عربة المجتمع على سكة التطور الصحيحة وبدون أيديولوجيا مفتتة ومفرقة على أساس الدين أو الطائفة أو القومية، رغم أن الحالة الصحية للمجتمع، لأي مجمع، لا يمكن أن تتطور إلا من خلال صراع المصالح وبالتالي الأيديولوجيات المعبرة عن هذه المصالح، لكن ما يستقيم في المرحلة التي تكون فيها الدولة قد تأسست والمجتمع قد استقر لا يستقيم في مرحلة الحرب الأهلية والصراع الاجتماعي المنفلت من كلّ عقال وخصوصاً إذا كان هذا الصراع القاتل يتغذى على الدين لا بل على الطائفة.
من التجربة التاريخية للمجتمعات المتقدمة يحاجج المدافعون عن الهوية الوطنية أن هذه الدول لم تصل إلى درجة التطور إلا بتجاوزها للأيديولوجيات المفتتة التي تقسم المجتمع عمودياً والتي انطلقت من مفهوم الدولة إلى مفهوم المواطنة المتجاوزة للعرق والقومية والدين والطائفة والجنس وحتى الطبقة، والتي سمحت لاحقاً بكل أشكال الأيديولوجيات (الوطنية)،إن صح التعبير، أن تفعل بكل قواها لحشد أنصار لها حتى الوصول إلى السلطة (الديمقراطية المسيحية – الاشتراكية الديمقراطية- المحافظين- الشيوعيين)، فهل يمكن اعتبار هذه الليبرالية السياسية آيديولوجيا كالأحزاب الشيوعية والقومية والدينية؟ أنا أميل لتبرئتها من هذه التهمة!
ويتابع اللاآيديولوجيون، أو العلمانيون في بناء الدولة- والليبراليون في السياسة، أن الآيديولوجية في الحالة السورية أورثتنا التفتت والانقسام ولن يوحدنا في هذه المرحلة أي من الأيديولوجيات السابقة، ووحدها الهوية الوطنية السورية قادرة على لملمة شمل المجتمع (دينياً وقومياً)، ووحدها الهوية الوطنية قادرة على حشد الشارع السوري تحت راية وطنية، وحتى ذلك الزمن الذي يكون فيه ظهور الرايات الأخرى الملونة مقبولاً ونوعاً من الغنى المطلوب، نقول حتى ذلك الزمن، فلتحيى راية الوطنية السورية ولتسقط كل الرايات الأخرى!
برهان ناصيف 1/9/2015