محاولة تفجير “قلب العالم”.. ميخائيل سعد
عندما سمعت نبأ التفجير الانتحاري الذي وقع في ساحة السلطان أحمد في اسطنبول الثلاثاء في 12 كانون الثاني 2016، خطر على بالي أول ما خطر أن المقصود هو تماثيل الآلهة الرومانية: أبولو وهرقل وديانا، الذي نصبهم الصدر الأعظم ابراهيم باشا في حديقة قصره هناك قبل ما يقارب القرون الخمسة.
وكان قد أحضرهم معه أثناء عودته من الحملة المظفرة في المجر عام 1526. أصابني الرعب من الخبر وظننت نفسي في مسلسل “حريم السلطان”؛ في الحلقة التي هاجم بها “الرعاع” حديقة الباشا، أثناء غيابه ووجود زوجته السلطانة خديجة لوحدها، لتحطيم التماثيل التي تدعو، حسب رأيهم، إلى “الشرك” بالله، فالمؤامرة كانت ضد الصدر الأعظم، لكن باسم الله، كما هي العادة دائما في تسخير الدين لمصلحة السياسة، كما هو الحال في هذا التفجير.
ربما يخطر ببال أكثر من واحد القول: ما هذا الربط الخرافي بين تماثيل ابراهيم باشا والتفجير الانتحاري الذي حصل في ساحة السلطان أحمد؟ لا شك أنهم على حق في رؤية الجانب الخرافي في الموضوع، تعالوا معي لنتعرف على بقية الجوانب الخرافية في الموضوع نفسه.
في آذار، عام 2001 قامت حركة طالبنان الأفغانية بتدمير تماثيل بوذا التي تم نحتها في القرن السادس، في وادي باميان في منطقة هزارستان في وسط افغانستان، الوادي الذي كان طريق الحرير التاريخي الذي يصل الصين بالعالم.
بعد ظهور داعش في العراق ثم في سوريا، قام عناصر “الدولة” بتدمير آثار نينوى العراقية، ثم تابعوا مهام “تحرير” العراق من الاحتلالات الطائفية، فدمروا مدينة نمرود التاريخية الآشورية.
ثم تابعوا عملهم “الرائع” فقاموا بتدمير متحف الموصل، لأن “الدولة الإسلامية”، لا تقبل إلا أن تبدأ البشرية منها وبها، ويجب أن تقوم على أرض خالية من الأوثان والإنسان!
في الجانب السوري من أراضي “الدولة الإسلامية” قام “حماة الدين” بتدمير الأضرحة الدينية التاريخية في ريف حلب والرقة.
وكان مسك الختام تدمير أهم آثار تدمر، وذبح عالم الآثار السوري الدكتور خالد الأسعد، وتعليق جثته برأسها المقطوعة على عمود في الطريق العام بتدمر، ليس لأنه مشرك بالله! وإنما لأنه رفض أن يرشدهم على موقع لكنز ذهبي متخيل، مطمور في مكان ما من تدمر.
أليس هذه السلوك الخرافي لـ”داعش” يجعلني أتخيل أنه ربما كان من أسباب تفجير ساحة السلطان أحمد وجود تماثيل رومانية في المكان قبل ما يقارب الخمسة قرون؟!
من الضروري أيضا الإشارة إلى الدلالات الأخرى لاختيار موقع الجريمة، فقد تم اختياره بدقة لتحقيق أهداف متعددة في الوقت نفسه؛ المكان هو امتداد للتاريخ الأوروبي وللعقل الأوروبي ومركز لأهم امبراطورية إسلامية.
فقد كانت ساحة السلطان أحمد تسمى ميدان سباق الخيل، الذي كان محورا للحياة البيزنطية على مدى ألف عام، وللحياة العثمانية على مدى 400 عام أخرى.
ويقال إن ميدان السباق هذا قد يبدو كما لو كان سببا في سقوط الأباطرة البيزنطيين والسلاطين العثمانيين إلا أنهم، مع ذلك، لم يتوقفوا عن تجميله، إلى أن وصل إلى وضعه الحالي.
وللإنصاف لا بد من الإشارة إلى أن داعش ليست هي الوحيدة التي ساهمت في تدمير الآثار ونهبها والتجارة بها، فقد لاحظ المراقبون أن العديد من التماثيل، التي لا تُقدر بثمن، والتي نحته القدامى من الرمان قد قام بسرقتها وتحطيم مالا يمكن حمله منها جنود الحملة الصليبية الرابعة الذين غزوا القسطنطينية (المدينة المسيحية الحليفة) في عام 1204.
كان الميدان، بالإضافة إلى كونه مكانا للنشاط الاجتماعي والسياسي، فقد كان مكانا لمذبحتين كبيرتين؛ الأولى عام 532 قبل الميلاد عندما تمت مقاطعة سباق العربات من قبل المحتجين ضد نظام جستنيان، وأدت إلى ذبح الآلاف من المتظاهرين في ميدان السباق على يد القوات الإمبراطورية.
والثانية عام 1826 حيث تم القضاء على آلاف الانكشاريين وذبحهم على يد السلطان محمود الثاني، الذي حاول إصلاح الجيش فقاومه الانكشاريون، فكانت المذبحة.
في المرحلة العثمانية تم بناء القصر الجميل المطل على الميدان، والذي أصبح سكنا لواحد من أهم رجال الدولة العثمانية هو الصدر الأعظم ابراهيم باشا، وكان السلطان سليمان القانوني قد أهداه له بمناسبة زواجه من أخته السلطانة خديجة.
وهو الآن متحف الفنون الإسلامية، ثم بعد ذلك بنى السلطان أحمد الأول جامعه الكبير والمعروف بالجامع الأزرق عام 1616 على الطرف الآخر من الميدان المقابل لقصر ابراهيم باشا، من جهة، ولآيا صوفيا من جهة أخرى.
أقرب نقطة للمكان الذي فجر به الانتحاري نفسه هو سبيل الماء الألماني الذي أهداه امبراطور ألمانيا ويليم الثاني في زيارته الثانيه إلى السلطان عبد الحميد الثاني عام 1898 تعبيرا عن الصداقه بين الخلافة العثمانية وألمانيا.
لذلك يمكننا الاستنتاج أن هدف العملية الانتحارية ليس قتل السواح الألمان، الذي ربما كان تواجدهم بالمصادفة في المكان أثناء العملية الانتحارية، وليس فقط تهديد تركيا “العدالة والتنمية” أو ألمانيا التي استقبلت أكبر عدد من اللاجئين السوريين في أوروبا، أو دفع الأتراك لنبذ السوريين والتخلي عن دعمهم، وإنما الهدف الأكبر هو تفجير «قلب العالم»، فهذا المكان سواء من ناحية كونه أهم ساحات اسطنبول الحالية، أو من ناحية حمولاته الرمزية التاريخية التي أشرنا إليها، هو في الحقيقة يمثل قلب العالم، كما كانت اسطنبول دائما.
أخيرا لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الجريمة، رغم لبسوها ثياب السلفية الجهادية، ورغم انتماء المنفذ لتلك السلفية، إلا أنها جريمة “حداثية” بكل ما للكلمة من معنى؛ من حيث التخطيط والأدوات والأهداف، ومن حيث الرغبة في نسف المكان الذي هو صلة الوصل بين مكونات التاريخ منذ آلاف السنين.
ألم يحن الوقت للتفكير حقا بمعالجة الأسباب التي تدفع الناس دفعا “للجهاد الحربي”؟؟