سنوات التأسيس “للأبد”
ميخائيل سعد
عام 1963 هو عامي الأول في إعدادية عبد الكريم الخطابي في حي المزرعة الدمشقي، وهو عام وصول حزب البعث إلى السلطة في سوريا. كنت في الصف السابع، وكنا نسكن في حي الأكراد الدمشقي، في أعلى نقطة وصلها السكن، وقتها، في قاسيون؛ في البيوت المطلة على طريق الطنابر، وكان صديقي الاقرب أيمن يسكن في حي ركن الدين الجديد، في أقصى الجنوب من حي الأكراد، في الشارع المطل على البساتين، قبل أن تختفي. وكان ركن الدين هو المنطقة التي تقع جنوب شارع ابن النفيس.
كنا أنا وأيمن نشكل فكي الكماشة التي تقبض على الحي بكامله، أنا، ابن الشرطي المسيحي الريفي، في أقصى الشمال وهو، ابن المحامي السني الريفي، في نهايات الجنوب، وكان الحي يتكون من أغلبية كردية ناطقة بالعربية، ومع بعض الاستثناءات التي لا تزال تحتفظ بلغتها الكردية، في أوساط المسنين فقط.
كان الحي مأوى للقادمين الجدد إلى عاصمة “ثورة الفلاحين غير واضحة المعالم”، كنت تجد الفلسطيني والسوري بألوانه المختلفة؛ المسيحي والعلوي والدرزي والاسماعيلي يسكنون الحي، قبل أن تتكون بؤرهم الخاصة مع تبلور وجه “الثورة” الفلاحي، فيتم فرزهم إلى: مساكن برزة، ومزة 86، والطبالة والدويلعة، وجرمانا، وغير ذلك من المناطق والأحياء المستحدثة بفعل الفقر أولا، ثم بفعل بقية العوامل.
في الثامن من آذار عام 1963 كان يوم جمعة، وكنت فيه على موعد من صديقي الثري نسبيا أيمن لاستعارة المجلات المصورة الجديدة التي كان قد انتهى من قراءتها.
كنا في شرفة الطابق الرابع عندما دخل الأب المحامي وقال لابنه البكر ولي: لقد ضحك علينا البعثيون وسرقوا الانقلاب، كان الضباط الناصريون قد اتفقوا مع الضباط البعثيين أن يكون موعد الانقلاب صباح 9 آذار، وها هم يفعلونه الآن دون علمنا (كان الرجل من قيادات الناصريين). وفمهت بعد ذلك، أن تلك اللعبة كانت الخطوة الأولى في “لعبة طرد الأكثرية خارج الحلبة السياسية”، التي بدأت داخل الجيش، لتصل في نهاياتها إلى طرد ملايين السوريين من وطنهم وقتل مئات الألوف منهم.
طوال السنوات الثلاث التي سكنا خلالها في حي الأكراد، لم يتعرض لنا أحد بأي سوء، ولم يكن يتكلم أحد أصلا في الأديان والمناطق، حسب ذاكرتي ومعارفي البسيطة.
المرة الوحيدة التي واجهت فيها موقفا غير مفهوم بالنسبة لي، كان أثناء عودتنا من الإعدادية سيرا على الأقدام من المزرعة إلى ركن الدين، فقد حدث شجار بيني وبين طفل آخر، فقال لي، وكان كل منا ضمن عصابته: أنا كردي ولاه.
لم أكن أعرف بماذا أرد عليه وكانت المرة الأولي التي أسمع فيها أحد يعرف نفسه بهوية قومية، فقلت له: أنا مسيحي ولاه…لم أكن أعرف أن مقابل أنا كردي، هو، أنا عربي، فقد كان البعث في الأشهر الأولى له في السلطة، ولم يحن الوقت بعد، لرمينا وصهرنا في “بيت نار” أفكاره القومية. التي حولنا إلى عربي في حاضنة مسيحية ريفية في مواجهة كردي في حاضنة سنية في المدينة والريف، وهذا ما حدث بالنسبة لبقية الطوائف والأديان كلها، فلم يستطع أن ينجو أحد من “بيت نار” البعث، كنا وقود النار التي عملوا على تأجيجها إلى أن تم صهر معدن حافظ الأسد وإعادة تشكليه من جديد، فاستطاع توريث ابنه وهو في قبره، على رماد مجتمعنا كله.
وكان المجتمع السوري قد أصبح بحاجة إلى معجزة كي ينهض من رماده طائر العنقاء، وهو ما حصل يوم 27 شباط عندما تم اعتقال اطفال درعا لأنهم كتبوا الشعار الذهبي: الشعب يريد إسقاط النظام، على جدران المدارس والبيوت، فجن جنون الأمن الأسدي، الذي شاهد كيف قطع هؤلاء الأطفال سبحة السجود والخضوع للاستبداد.
في عام 1963، وهي من سنوات التأسيس “للأبد”، أذكر أن بعض طلاب الإعدادية التي كنت فيها قد شاهدوا بيانين سياسيين؛ الأول منهما صادر عن الإخوان المسلمين في سوريا، أذكر أنه كان يتهم سلطة البعث بالكفر، والثاني صادر عن الناصريين ولكن لا أذكر منه إلا أنه ضد حكامنا الجدد البعثيين.
وبدأ الفراق بين سلطة البعث وبين أغلبية السوريين مرورا بأحداث حماه عام 1964، وكان من الطبيعي أن يؤدي الصراع داخل البعث، بعد حرب 1967، إلى انتصار حافظ الأسد عام 1970، ليبدأ بعد ذلك عصر “سوريا الأسد”.
ما سبق هو بعض الإشارات التي أردت القول من خلالها إن أزمات المجتمع السوري لم تبدأ البارحة مع الثورة، وإنما كانت موجودة وقد تم تصنيع قسم منها لخدمة نظام الأسد، كما تم تضخيم قسم آخر كي تكون مكونات المجتمع في مواجهة بعضها دوما، ولكي يكون الحكم بينها هو رجل المخابرات الأسدي.
ولعل من مظاهر الآفات الأسدية التي نخرت مجتمعنا هو الخوف الذي زرعه النظام بين مكونات هذا المجتمع، وجعل كل مكون منه يظن أن المكون الآخر سيلتهمه، وأنه أخطر عليه من نظام الأسد ذاته، لذلك ليس مستغربا أن نسمع بعد كل هذا القتل في سوريا، وكل هذا الخراب، والملايين التي أجبرت على ترك بيوتها وبلدها، وعشرات آلاف القتلى، ومثلهم من المفقودين، وملايين الأطفال الذين أصبحت الشوارع مدارسهم وبيوت بعضهم، والقمامة بعض طعامهم.
وكل هذا وغيره لم يدفع إحدى السيدات السوريات للتوقف وإعلان غضبها على النظام الذي كان السبب في ذلك، ولكنها توقفت طويلا عندما رأت إحدى صوري في مدينة قونية التركية في موضأ أحد الجوامع وأنا أغسل وجهي ويدي وقدمي في يوم صيفي حار أمضيته في زيارة المواقع الأثرية السلجوقية، فقالت لصديق التقيته أخيرا، ونقل لي ما جرى منذ أشهر..