الأحلام التي تحولت إلى كوابيس.. ميخائيل سعد*

مقالات 0 admin
ميخائيل-سعدفي مطلع عام  1996 كتبت في افتتاحية مجلة أرابسيك، التي كنت رئيس تحريرها، وكانت تصدر عن مركز الدراسات العربية في مونتريال، عن الأحلام التي تتحول إلى كوابيس: “إذا لم تتحول أحلامنا الى كوابيس، كما أدعي، فكيف يمكن تفسير إقدام عشرين لاجئا عربيا على الانتحار، في سجون ألمانيا، لمجرد أن الحكومة الألمانية اتخذت قرارا (وديا) بإعادتهم الى أوطانهم الأصلية.
مَن يفسر لنا كيف وصل الأمر بهؤلاء إلى تفضيل الموت على العودة إلى “الوطن الحبيب”؟ أي تدمير لكل قيم الذات الإنسانية أقسى من هذا…..وأي وسام أكثر إهانة، في موت هؤلاء، يمكن أن يُعلق على صدور الحكام العرب وأذنابهم؟!”
قبل نهاية القرن الماضي بعدة أشهر قرر أحد المهاجرين السوريين أن ينهي اغترابه “القسري” عن وطنه، وأن يدخل القرن الجديد نظيفا، طاهرا، لا يحمل أي نوع من الخطايا أو فيروسات الهجرة، ممارسا بذلك فعل “المعمودية” على الطريقة المسيحية، أو فعل “الحج” على الطريقة الإسلامية، فهو يريد أن يعود إلى وطنه الأصلي خاليا ونظيفا من فيروسات “الغرب”، مهما كان نوعها، كمن يولد من جديد، إنه، كما قال، يريد أن يموت في وطنه، وأن يُدفن في ترابه، قرب أجداده.
كانت طريقته بالكلام، وحماسته بالتعبير عن عشقه لوطنه، قد جعلتنا نصدق أنه سيعود نهائيا، وخاصة بعد أن باع أغراض منزله، وحمل في حقائبه ما يلزم عائلته وأطفاله من ثياب فقط، فالوطن فيه كل شيء، ولا مبرر لشحن الأغراض من كندا إلى سوريا.
بعد ثلاثة أشهر من سفره، عاد الرجل الى مونتريال، مقرِرا، أن يكون في “الغرب”، قبل نهاية القرن وبداية الجديد.
وعلى الرغم من أن الرجل كان من أنصار نظام الأسد، وله مكانته فيه، إلا أنه قال: لم أجد في حمص إلا لون الاسمنت المنتشر في كل الأحياء، ولم أجد إلا الفوضى والفساد، وأكثر ما كان يزعجني هو انعدام قانون السير.
خلاصة التجربة، كما قال، سوريا مكان لا يُعاش فيه، والحق في ذلك على الناس، وليس على النظام، “فكما تكونوا يولَّ عليكم”. وهكذا حمل الناس مسؤولية سقوط حلمه، فلا هو ولا النظام السياسي مسؤول عن ذلك الانهيار!
كان حلم الكثير من السوريين قبل الثورة الحصول على جواز سفر غربي يمكنه من زيارة البلدان التي يريدها دون عوائق، لذلك كان المواطن السوري في عام 1989 مثلا، يقف بالطابور أمام السفارات الغربية، ولساعات قد تتجاوز 15 ساعة للحصول فقط على فرصة الدخول إلى السفارة الأمريكية أو الفرنسية أو الكندية، لعله يحصل على فيزا تجعله يغادر سوريا إلى أي بلد غربي كي يبقى فيه، وخاصة إلى الولايات المتحدة، حيث يمكن للإنسان المخالف أن يعيش سنوات دون أن يتم ترحليه إلى بلده الأصلي.
كانت الثورة التي انطلقت في 15 أو 18 آذار، التاريخ ليس مهما بالنسبة لي، هي عبارة عن مجموع أحلام السوريين المقموعة عبر سنوات البعث، وخاصة سنوات حكم الابن، الذي سمح للناس بالحلم دون أن يسجنهم، كما في عصر أبيه، ما أدى إلى “الانفجار العظيم”، الذي يشبهم عند السوريين لحظة خلق العالم، فلم تعد أجسادهم قادرة على الاحتفاظ بتلك الأحلام عن الحرية والعدالة والديمقراطية، فخرجوا إلى شوارع مدنهم وقراهم كالطوفان يجرف أمامهم الأقذار التي تراكمت في كل مكان، وخاصة الصور والتماثيل والشعارات التي تمجد “الأبد”، ليحل مكانها أناشيد الحرية ولوحات الكرامة والشجاعة الفردية والجماعية الخارقة.
حلم الحرية السوري هذا، الكبير والمتوهج، أخاف السلطة الأسدية، ولكنه أخاف بشكل أكبر، دول العالم، التي نسجت مصالحها مع هذا النظام على مدى خمسين عاما، وكان الخادم الوفي لها، فكيف ستتخلى عنه؟
وكان لا بدّ من تكسير هذا الحلم العظيم وتحويله إلى كابوس عام بالنسبة للسوريين عامة، وإلى كابوس خاص لكل سوري على حده، قبل القضاء على الثورة، وتحويلها إلى حرب أهلية كي يهرب من التزاماته تجاه الشعب السوري.
استطاعت ثقافة الاستشراق أن تجعل من مواطني دول العالم العربي، وسوريا ولبنان على رأس هذه الدول، حَمَلةً لحلم الثقافة الأوروبية، وتحولت أوروبا إلى القبلة التي يحلمون بالسفر إليها “للحج” أو الإقامة الدائمة في ربوع جنتها، لذلك ما إن انهارت الحدود أمام اللاجئين السوريين حتى توجه مئات الألوف منهم برا وبحرا وجوا إلى هناك، لعلهم يعوضون بعضاً من حلمهم المفقود تحت سنابك خيل الأسد وأحذية جنده، فماذا وجدوا؟
لم تكن أوروبا التي عثروا عليها هي أوروبا التي شاهدوها في أفلام السينما، ولا هي أوروبا حقوق الإنسان، ولا أوروبا التي تتحدث بلسان شعارات الثورة الفرنسية، لقد وجدوا أوروبا التي تراهم “كغزاة”، كما وصفهم في زلة لسان، معبرة، بابا الفاتيكان؛ لون بشرتهم مختلف، ودينهم مختلف، وعاداتهم مختلفة وثقافتهم مختلفة، رغم أن الكثير منها مقتبس من الثقافة الأروربية نفسها، ولكنها تحمل نكهة “العربي” الحامضة واللاذعة للذائقة الأوروبية.
وجدوا أن عليهم أن يتأقلموا مع شروط الإقامة الصعبة في هذه “الجنة”، وإلا فسيكون أمامهم خيار وحيد، ولو بعد حين، الترحيل الإجباري إلى وطنهم الأصلي، فماذا تراهم عندها فاعلون، هل يقدمون على الانتحار الجماعي كما فعل العشرون لاجئا عربيا في السجون الألمانية عام 1996، لأن الحكومة الألمانية قررت ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية؟!
أتمنى أن يسقط النظام الأسدي قبل يصل اللاجىء السوري إلى هذا الخيار المر، ومع ذلك أناشد السوريين، أينما كانوا، الإسراع في التأقلم في الأوساط الجديدة من خلال التعلم السريع للغة البلد المضيف، والبحث عن عمل والتقيد بالقانون، فقد يكون في ذلك مكسبا للجميع يمنع تحول الأحلام الزهرية إلى كوابيس مرعبة يومية لهم.

– See more at: https://zamanalwsl.net/news/69516.html#sthash.4pIgRJOE.dpuf

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة