الصراع المعلّق في سورية يفسّر انسحاب روسيا الجزئي-يزيد الصايغ
يستمر الانسحاب العسكري الروسي الجزئي من سورية الذي أعلن عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إثارة قدر كبير من التعليقات. وهنا تبرز ثلاثة تفسيرات لهذا الانسحاب. أولها يرى أن بوتين يهدف إلى تقليل الخسائر الروسية، وهو رأي ردّده أعضاء المعارضة السورية التي صورت الانسحاب باعتباره نتيجة لمقاومتها المسلحة، على الرغم من أن هناك القليل من الأدلّة على هذا الادّعاء. التفسير الثاني، والذي يشير في شكل صحيح إلى أن روسيا تحتفظ بقوة قتالية كبيرة في سورية يمكن زيادتها بسهولة من جديد، يقول أن دافع بوتين الأساسي هو «ليّ الذراع»، سواء بالنسبة إلى الولايات المتحدة أو الرئيس بشار الأسد، من أجل فرض قبول الشروط الروسية للتوصل إلى اتفاق سلام ينهي الصراع السوري. وهناك رأي ثالث يقول أن بوتين حقق أهداف السياسة الخارجية والداخلية التي شجعت على التدخل في سورية، وهو مكتفٍ بالمكاسب التي جناها.
وثمّة تفسير بديل يقول أن بوتين لا يرى أن التوصّل الى اتفاق سلام في سورية وشيك، وهذا ما جعل اتخاذ الخيار في شأن إمكانية وكيفية مواصلة التدخل العسكري الروسي أمراً صائباً وضرورياً. ذلك أن فرض الشروط الروسية للتوصّل إلى اتفاق على الولايات المتحدة وغيرها من الداعمين الخارجيين للمعارضة السورية يتطلّب تصعيداً ملحوظاً للتدخّل، الأمر الذي يكبّد روسيا تكاليف مادية ومخاطر مواجهة جيوسياسية تفوق ما يبدو بوتين على استعداد لقبوله. بيد أن من الواضح أن الإبقاء على المستوى السابق من العمليات القتالية إلى أجل غير مسمى من دون توقع واضح بتحقيق نتائج سياسية إضافية لا معنى له أيضاً. والواقع أن مثل هذا الأمر ينطوي على خطر تبديد أي صدقية اكتسبتها روسيا نتيجة ترتيب الإطار الديبلوماسي، الذي ربما يكون قابلاً للتطبيق، الوارد في بيان فيينا في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، ووقف الأعمال العدائية الذي دخل حيّز التنفيذ في 27 شباط (فبراير) 2016.
وفقاً لذلك، فإن الانسحاب الجزئي من سورية يعيد تموضع روسيا عسكرياً وديبلوماسياً للحدّ من التكاليف إذا ما ظلت التسوية السياسية لإنهاء الصراع غير قابلة للتحقيق، في الوقت الذي يزيد قوة تحمّلها وقدرتها على الاستمرار في تشكيل الأحداث على الأرض والاستجابة بمرونة للتطورات المستقبلية، بغضّ النظر عن الشكل أو الاتجاه الذي تتّخذه تلك التطورات.
في المقابل، إذا كان بوتين يعتبر أن فرص تحقيق تسوية سياسية ضعيفة في الوقت الحاضر، فإن مردّ ذلك جزئياً إلى أنه اكتشف حدود النفوذ الروسي على الأسد وبقية نظامه. فقد تباهى النظام مراراً بسيادته واستقلاله قبل ومنذ إعلان وقف الأعمال العدائية في 22 شباط، أولاً عبر الإعلان بأن الانتخابات البرلمانية ستجرى في 13 هذا الشهر، في تحدٍّ للشروط والجدول الزمني المنصوص عليه في بيان فيينا، ومن ثمّ عبر الإصرار على أن وضع الأسد غير قابل للتفاوض، وأن الحكومة تسعى لتحقيق نصر تام ولن تتحدث إلى من ترى أنهم إرهابيون، وتقصد بذلك المعارضة السورية. وإذا كان بوتين يأمل بإقناع الأسد بأخذ التنازلات التي من شأنها المساعدة في التوصل إلى اتفاق سلام بوساطة روسية بعين الاعتبار، فإن الانسحاب الجزئي الروسي ليس مقدمة لهذه المحاولة، كما قال البعض، بل هو انعكاس لفشلها.
ما من شكّ في أن الأسد يعتقد أن بوتين لا يمكنه أن يقلّل الدعم الروسي لنظامه بصورة كبيرة، ناهيك بإنهائه، من دون أن يخاطر بصورة حقيقية بإسقاطه تماماً. ومن الواضح أن هذا من شأنه تقويض هدف روسيا الرئيس في سورية وتبديد كل المساعدة العسكرية والاقتصادية التي أرسلت إلى النظام منذ العام 2011. ومن الواضح أن بوتين لا ينوي التخلّي عن النظام، غير أن من المستبعد أيضاً أن ينجح أي أمل لديه باستخدام علاقة روسيا القديمة مع الجيش السوري للفوز بدعمه واكتساب القدرة على التأثير في الأسد. ذلك أن هيكل القيادة الرسمي الذي تتعامل معه روسيا لا يمارس سلطة فعلية على القطعات العسكرية بقدر ما تمارس شبكات النظام الموازية داخل الجيش، ولذا فهو يتمتع بقدر ضئيل من الاستقلالية ولا يمكن أن يوفّر لروسيا وسيلة للتأثير.
ومن المفارقات أنه لا يمكن لروسيا تحقيق المزيد في سورية من دون النفوذ والموارد الإضافية التي يمكن أن تستثمرها الأطراف الخارجية الرئيسة الأخرى: إيران التي تقف إلى جانب النظام، ولكن أيضاً الولايات المتحدة وتركيا والسعودية. ويصح ذلك بخاصة اذا اقتنع بوتين بضرورة إيجاد صيغة تضمن رحيل الأسد في نهاية المرحلة الانتقالية. غير أن اهتمام الأطراف الخارجية الأخرى، مثل روسيا، يتركّز بصورة متزايدة على تحدّيات أخرى، بما فيها «داعش».
وهذا يبقي سورية في حالة من «الصراع المعلّق» حيث يرجّح أن يصمد وقف الأعمال العدائية خلال الأشهر المقبلة، بالتوازي مع محادثات السلام في جنيف التي من شبه المؤكّد أن تبقى متقطّعة رغم أن المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا عبّر عن أمله علناً بالانتقال من مناقشة المبادئ إلى مناقشة موضوعات سياسية فعلية.
السؤال إذاً هو ما إذا كانت الديناميات السياسية والاتجاهات العسكرية داخل سورية ستتطور في هذه الأثناء بطرق تؤثّر في التوازن العام. والواقع أن الجماعات المسلحة الموالية لـ «داعش» في جنوب سورية انتقلت إلى الهجوم لتوسيع منطقة سيطرتها في القرى الواقعة إلى الغرب والشمال من درعا عاصمة المحافظة. وقد استعادت قوات النظام مدينة تدمر الصحراوية، وهو ما يعتبر مكسباً مهماً، ويمكن أن تسعى لمواصلة الاندفاع نحو الجيب المحاصر حول مدينة دير الزور في الشرق، أو الضغط على المعاقل الباقية لـ «داعش» إلى الشرق من حلب في شمال البلاد. وقد ردّ حزب «الاتحاد الديموقراطي» الكردي على استبعاده من محادثات جنيف بالإعلان عن نيته إعلان إقليم فيديرالي، وهو يتنافس مع النظام و «داعش» والمعارضة السورية لتشكيل تحالفات مع العشائر العربية في شمال وشمال شرقي سورية.
التقدم (أو عدمه) في الحرب ضد تنظيم «داعش» في العراق، سوف يؤثّر أيضاً في التطورات في سورية. النجاح سيميل لمصلحة نظام الأسد، من خلال منحه ميزة عسكرية نسبية على طول خطوط مواجهته الطويلة مع التنظيم، ولكن إذا تعطّلت الحملة ضد «داعش» في العراق فإن ذلك سيبقي سورية في وضعها الحالي، والذي يميل أيضاً لمصلحة النظام. وفي الوقت نفسه، يواصل النظام الضغط على المناطق المحاصرة في سورية، وخصوصاً جنوب دمشق وشمال حمص، كي تذعن للهدنات المحلية التي تبقي جماعات المعارضة المسلحة في مكانها ولكنها تحرر وحدات الجيش كي تنتقل إلى جبهات أخرى. وسيعمل الأسد على تعزيز زعمه بأنه يعمل على تهدئة الأوضاع في البلاد وتحقيق المصالحة، وتأتي الانتخابات البرلمانية المقبلة في هذا االسياق أيضاً. وعلى العكس من ذلك، تعتمد المعارضة بصورة كبيرة على تقدم محادثات السلام التي لا يلتزم بها النظام بصورة حقيقية، وهي، أي المعارضة، مهدّدة بفقدان المبادرة السياسية والعسكرية.
بناءً على الاتجاهات الحالية، سيظل نظام الأسد متقدماً قليلاً، كما كان دائماً منذ بداية الأزمة السورية. غير أن ذلك لم يكن كافياً لتحقيق النصر التام على المعارضة الذي لا يزال يسعى إليه، ولا لدفع الولايات المتحدة إلى الدخول في شراكة غير مشروطة ضد «داعش» تبقي الأسد في الرئاسة والسيطرة الكاملة على الجيش والأمن في يديه. على العكس من ذلك، وحتى مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية واحتمال مجيء إدارة أكثر حزماً إلى الحكم، تبدو الولايات المتحدة أقل احتمالاً من أي وقت مضى لبذل الجهد الديبلوماسي الكافي، ناهيك بالتدخّل العسكري، لفرض اتفاق سلام أفضل. وبما أنه ليس لدى الولايات المتحدة ولا روسيا من مصالح استراتيجية تدفع أياً منهما لكسر الجمود الذي سينتج مجدداً، فيبدو دخول سورية في حالة الصراع المعلّق مؤكداً.
* باحث أول، مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.