عن فيديراليات «تيار المستقبل»… وعن متنه-حازم الامين
ثمة محنة تعصف بـ «تيار المستقبل» اللبناني، التيار الذي مثل لمرحلة ليست بعيدة الجهة التمثيلية اللبنانية الأعرض بين كل القوى السياسية الطائفية، ومن بينها «حزب الله». ذاك أن الأخير مضطر دائماً لعقد شراكة مع «حركة أمل» لحيازة التمثيل الشيعي في المجلس النيابي والحكومة، أما «المستقبل» فتمكن وحده من تمثيل السنة اللبنانيين، لا بل مد نفوذه إلى مواقع الطوائف الأخرى مؤثراً في تمثيلها نيابياً ووزارياً أحياناً.
قوة «المستقبل» اليوم تكمن فقط بانعدام طاقة خصومه السنة، وقوة جذبه الوحيدة خارجه، وتتمثل في أنه مظلة خصومة «حزب الله» لمن يرغب في عقد الخصومة، والراغبون هم معظم السنة اللبنانيين. وفي ما عدا ذلك يترنح التيار الأزرق، على ما دأبت الصحافة على تسميته، بأزمات صار يصعب تفادي تناولها.
اليوم لا يمكن للبناني عادي أن يُحدد ما إذا كان السجال العنيف بين وليد جنبلاط وممثل «المستقبل» في الحكومة وزير الداخلية نهاد المشنوق، هو أيضاً سجال بين جنبلاط و «المستقبل». فالسجال كشف مرة أخرى تخبط المستقبل مع وزرائه، ما جعل جنبلاط أكثر استعداداً للسجال وأقدر على رفع سقوفه ولغته. الأمر نفسه حصل مع ممثل آخر لـ «المستقبل» في الحكومة، هو وزير العدل أشرف ريفي. فالأخير قرر مغادرة الحكومة من دون التنسيق مع رئيس التيار سعد الحريري، وها هو اليوم شخصية سياسية يصعب علينا، نحن اللبنانيين العاديين، تحديد المسافة التي تفصله عن التيار أو تجمعه به.
والحال أنه يصعب على المراقب في لبنان ضبط اللغة السياسية التي حددها «تيار المستقبل» في خطابه، أو خطبه. فتارة تأخذ هذه اللغة شكل الانشقاق عن متن الخطاب، على نحو ما شهدنا في موقف ريفي من ترشيح الحريري للوزير سليمان فرنجية، وتارة أخرى يكشف الخطاب بعداً انشطارياً، كما شهدنا عندما قال المشنوق أن بلدة عرسال البقاعية محتلة، وهو ترداد لما دأب «حزب الله» على ترويجه عن البلدة السنية.
والحال أن ليس المشنوق وريفي وحدهما من يكشفان تخبط «المستقبل» بمحنته، فرئيس كتلة المستقبل فؤاد السنيورة ليس بعيداً، على ما يبدو، عن مشهد التفكك هذا، وهو لا يبدي الكثير من الحماسة لإعادة التماسك. هذا من دون أن يسقط المراقب في فخ ترداد ما يقوله خصوم التيار عن مساعي السنيورة لحيازة جزء من القاعدة الاقتصادية والعقارية للزعامة الحريرية.
وحيال هذا المشهد «المستقبلي» المتنازَع، يظهر أن رئيس التيار سعد الحريري أمام ثلاث عقبات متفاوتة تقيم على شريط المدن السنية اللبنانية الثلاث، أي صيدا (فؤاد السنيورة) وبيروت (نهاد المشنوق) وطرابلس (أشرف ريفي)، ناهيك عن الصدع العكاري المبكر المتمثل بواقعة إبعاد النائب خالد الضاهر عن الكتلة النيابية وإبقائه في دائرة علاقة غير واضحة مع التيار، وهذه كلها عقبات كاشفة لنوعية المأزق.
فالحريري الذي صُدم بعبء وراثة رفيق الحريري، لم يُتح له الابتعاد خطوة واحدة عن ماكينة والده، وهو إذ يواجه اليوم تعثراً اقتصادياً ومالياً، لم يجد في محيطه «لحماً حياً» يتكئ عليه، بل على العكس، فقد كشفت الأزمة عن شراهة لاهثة خلف ما تبقى من عناصر قوة في هذا الجسد المتعثر.
لمراقب أن يُلاحظ أن مأزق الحريري الابن ليس عجزاً، إنما سياق أفضى إلى ما وصلت إليه حال التيار. وهو تُرك وحده في مواجهة أقداره، وما أثقلها. فليس «حزب الله» وحده ما جعل المهمة مستحيلة، إنما ما تطلبته مهمة الابن المتمثلة بمد زعامة الأب البيروتية إلى زعامة لبنانية تشمل كل مناطق الوجود السني، وهو أمر حصل من تلقائه، وكان على سعد أن يمتص تبعاته.
نعم واجه سعد الحريري واقعاً إقليمياً غير مساعد، وأسقطته تعقيدات الصراع في الكثير من الأخطاء والأفخاخ، لكنه واجهها منفرداً. كان النجاح، على تواضعه، من نصيب الكل، والفشل من نصيبه وحده، وكان واضحاً أن أحداً لا يريد للخبرة أن تتحصل.
اليوم يبدو أشرف ريفي رئيساً في فيديرالية «المستقبل»، ونهاد المشنوق يخوض معاركه وفق حساباته التي لا نعرف حصة «المستقبل» منها طالما أننا لم نسمع صوتاً مستقبلياً متضامناً معه، وفؤاد السنيورة غارق في صمت ومشاريع موازية. وهذه ضفاف لا تؤلف متناً، ويصعب توظيفها لغير الخصوم.
ولكن في مقابل ذلك، لا يبدو أن للفيديراليات المستقبلية أفقاً إذا لم تندرج ضمن حريرية ما، والحريرية علاقة رحمية قبل أن تكون سياسية، وفي مجتمعاتنا تستمد السياسة معانيها من العصبية الرحمية قبل غيرها من العصبيات. لهذا يبدو أشرف ريفي، مثلاً، قوياً في طرابلس، لكنه لا يستطيع ترجمة قوته إلى سياسة ما لم تكن جزءاً من الحريرية التي يمثلها سعد الحريري.
وسِعة «المستقبل»، التي استأنف بها سعد زعامة والده والتي كانت محاصرة بمنعها من التمدد إلى خارج بيروت من جانب النظام السوري، بدت في سرعة تفشيها، بعد اغتيال الأب، التهامية، وهي إذ راحت تضم إليها من لم يكن حريرياً، بدت موازية في سعيها لاحتكار التمثيل السني لالتهام «حزب الله» وحركة أمل التمثيل الشيعي، ومثلما ضمت كتل «حزب الله» وحركة أمل في هوامشها آل عسيران وآل الزين والرئيس حسين الحسيني قبل أن يضيق صدره ويُغادر، ضمت كتلة «المستقبل» في هوامشها أيضاً آل سلام وسعت لتمثيل المراعبة في عكار، وبدا أن الطائفة السنية كلها قد «سقطت في فخ المستقبل». وكما مثّل ذلك قوة للحريرية، مثل أيضاً موضع وهنٍ فيها، ذاك أنها عجزت عن هضم تناقضات الطائفة وتفاوتاتها.
الصدع أصاب «المستقبل» في المتن لا في الهامش. فليس صدفة أن تبدأ ملامح الانشقاق من الفريق الذي خلفه الوالد، ذاك أن القاعدة في مجتمعاتنا تقول أن على الوريث أن يبتعد عن فريق والده، وفي محيطنا تجارب كثيرة على هذا الصعيد، في الأردن والمغرب وفي سورية أيضاً. ومن المرجح أن لدى كثيرين شعوراً بالتفوق على تجربة الشاب الذي قدِم إلى الزعامة من صدمة الاغتيال، فوجد نفسه في غابة من الخبرات القاتلة.
يبقى أن عقبات كبرى ما زالت قائمة في وجه الطامحين، وفي لبنان لا وريث غير الابن، والخبرة تتحصل لاحقاً. ولحظة مواجهة واحدة مع «حزب الله» كفيلة بأن يستعيد سعد الحريري زمام المبادرة من الطامحين.
الحياة-الأحد، ٢٤ أبريل/ نيسان ٢٠١٦