كان يوما باردا ملبدا بالغيوم من فبراير/شباط 2015 عندما دخل أنور ر. إلى مركز شرطة في برلين لتقديم شكوى. قال أنور ر.، ضابط المخابرات العسكرية السورية السابق الذي يعيش الآن في ألمانيا، إنه يعتقد أن عملاء الحكومة السورية كانوا يتتبعونه في برلين. أعرب عن خشيته من أن يُختَطَف، وفي أسفل شكواه المكتوبة، وقّع اسمه مستخدما لقبه العسكري – “عقيد”.
لم تتمكن الشرطة من العثور على دليل على أنه مُلاحَق، لكنها درست بعناية التفاصيل الدقيقة التي شاركها أنور ر. حول مهنته الاستخباراتية المزعومة.
اليوم، أنور ر. (58 عاما) يحاكَم في كوبلنز، مدينة صغيرة غرب ألمانيا، بتهمة ارتكاب جرائم مزعومة ضد الإنسانية قبل انشقاقه عام 2012. بدأت المحاكمة في أبريل/نيسان 2020 حيث اتُهم بـ 4 آلاف واقعة تعذيب، و58 جريمة قتل، وبالاغتصاب والاعتداء الجنسي، بينما كان يترأس تحقيقات في منشأة استخبارات عسكرية تُعرف بـ “الفرع 251” في دمشق. من المتوقع إصدار الحكم بشأن الإدانة والعقوبة في يناير/كانون الثاني.
أنور ر. (تتطلب قوانين الخصوصية في ألمانيا إخفاء الاسم الكامل للمتهم) هو أكبر مسؤول حكومي سوري سابق مزعوم يُحاكم في أوروبا على جرائم ضد الإنسانية ارتكبت في سوريا.
هذه المحاكمة جاءت بفضل مزيج من المبادرات الفردية، والجهود الجماعية الدؤوبة، والتكنولوجيا المبتكرة – والصدفة والهفوات البشرية.
لكن مسرح محاكمة كوبلنز كان مُعدّا قبل وقت طويل من اعتقال أنور ر. عام 2019. كانت السلطات الألمانية تحقق في الجرائم في سوريا منذ بدء الانتفاضة في البلاد عام 2011. ثم في 2015، وصلت أعداد كبيرة من السوريين من مختلف مناطق سوريا إلى ألمانيا. أثناء البحث عن بداية جديدة في وطن جديد، لم يكن محو تاريخهم في سوريا التي مزقتها الحرب ممكنا. هذا يعني أيضا أن الضحايا والشهود والأدلة المادية – وحتى بعض المشتبه بهم – غير المتوفرين سابقا– أصبحوا في متناول السلطات القضائية الأوروبية.
عنصر أساسي آخر: تسمح قوانين ألمانيا بمحاكمة الجرائم الخطرة هناك، حتى دون وجود صلة لألمانيا بالجرائم، وهو مبدأ يُعرف باسم “الولاية القضائية العالمية“. قد يبدو حدوث هذه المحاكمة محض صدفة.
هذه المحاكمة فريدة من نوعها أيضا.
بعد قرابة عقد على اندلاع الحرب، انتهى القتال في سوريا تقريبا. أحكم الرئيس بشار الأسد ومسؤولون حكوميون آخرون قبضتهم على السلطة واستعادوا السيطرة على معظم البلاد. بالتالي عندما يتعلق الأمر بالمسؤولية الجنائية عن الجرائم في سوريا، تعتبر فكرة المحاكمات العادلة داخل البلاد بعيدة المنال. في الوقت نفسه، محاولات إشراك “المحكمة الجنائية الدولية” أو المحاكم الدولية الخاصة قد أُحبِطَت. مع انعدام المساءلة، تستمر الانتهاكات الجسيمة من قبل جميع الأطراف دون رادع. العدالة الهادفة في سوريا – أقلّه حاليا – غير ممكنة.
إذن، لماذا تعتبر القضية المرفوعة ضد عميل استخباراتي مزعوم متوسط المستوى على بعد آلاف الأميال من مكان وقوع الفظائع مهمة؟
المحاكمة
أ- الشاهد
دخل عامر مطر، صحفي ومخرج وثائقي سوري، إلى قاعة المحكمة في كوبلنز لمواجهة الرجل الذي زعم أنه عذّبه قبل عقد من الزمن. كان ذلك في 7 أبريل/نيسان 2021 – اليوم الـ 67 من جلسات محكمة أنور ر.
جلس مطر (34 عاما) إلى طاولة مقابل القضاة الخمسة. كان أنور ر. عن يمينه على طاولة أخرى.
قال مطر لـ “هيومن رايتس ووتش” في أكتوبر/تشرين الأول 2021: “اتخذت قرارا واعيا منذ البداية بعدم توجيه أي من كلامي أو أي من شهادتي تجاه أنور ر. أخبرنا أيضا أنه يكتم منذ زمن ما حدث له في الفرع 251. لكن في المحكمة، وبينما كان يستعد لمخاطبة القضاة، تلاشت تفاصيل الغرفة – النوافذ الطويلة، والفواصل الشفافة الموضوعة بين المكاتب بسبب تفشي فيروس “كورونا”، والجدار المكسو بالكتب خلف القضاة. قال: “عدت إلى السجن وإلى الزنزانة وإلى سوريا”.