5 حزيران: من القنيطرة إلى حلب-الياس خوري
بعد تسعة وأربعين عاماً على هزيمة الخامس من حزيران/يونيو المخزية، لا يزال الناس في بلادنا لا يعرفون وقائع ما جرى في ستة أيام كانت كافية لتحويل الحلم القومي إلى كابوس. عبدالناصر قال في خطاب تنحيه الشهير أننا انتظرناهم من الشرق فجاءوا من الغرب. (لاحظوا معي دقة الكلمات التي صاغها هيكل، بدلاً من الاستقالة استخدم كلمة تنحي، وبدلاً من وصف ما جرى باسمه الحقيقي تم اختراع عبارة النكسة).
وضباط البعث السوري الحاكم قالوا إن إسرائيل فشلت لأن هدفها كان إسقاط الأنظمة «التقدمية»، فضحينا بالأرض وأنقذنا النظام! عبارة النكسة تخفي ما أفصح عنه التعبير البعثي، فإذا كان ما جرى نكسة فإن بقاء النظام وعودة ناصر عن تنحيه يمكن أن تترجم بوصفها انتصاراً! وهكذا أعفى نظام الهزيمة نفسه من المحاسبة، بل صارت المحاسبة جزءًا من المؤامرة الامبريالية!
لكن هذا الغطاء الهيكلي للهزيمة لم يستطع منع المؤامرات الانقلابية، هل كان مشير الهزيمة عبدالحكيم عامر يعد لانقلاب عسكري تم احباطه، ام ان «انتحار» المشير كان الغطاء الأخير الذي أقفل الملف؟ لا أحد يدري. أما في سوريا فالسؤال الذي لم يجب أحد عليه هو كيف ومن أعطى أوامر الانسحاب من القنيطرة قبل سقوطها؟ هل كان وزير الدفاع الفريق حافظ الأسد يحافظ على جيش النظام تمهيداً لاستخدامه من أجل السلطة؟ أم ماذا؟
أسئلة الهزيمة معلقة ولا أجوبة عليها. الأرشيف العسكري الإسرائيلي عن وقائع الحرب متوفر للباحثين، أما الارشيفان المصري والسوري فمغيبان خلف غبار الخطاب السياسي، ولا يمكن الاقتراب منهما. ما يسمح لنا بالقول بأن الإسرائيليين لم يكتفوا بكتابة مصائرنا بل يكتبون تاريخنا أيضاً!
لا نستطيع قراءة الهزيمة وفهمها في غياب أرشيف ووثائق الجيوش العربية الثلاثة التي هزمت، وكل أسئلتنا معلقة، وستبقى كذلك، إلا إذا لجأنا إلى التخمين والافتراض، أو استخدمنا قراءتنا للرواية الإسرائيلية عن الحرب، وهي للأسف الرواية المتكاملة الوحيدة المتوفرة.
لكن غياب المعلومات السياسية والعسكرية لا يمنع طرح الأسئلة البديهية، كأن نسأل مثلاً ماذا كان الهدف من إغلاق مضيق تيران؟ هل كان ناصر يجهل أن هذا الاغلاق كان بمثابة اعلان حرب؟ أم أنه كان يعتقد أن جيش عامر قادر على المواجهة العسكرية؟ أم أنه كان يناور معتقداً أن إسرائيل لن تجرؤ على شن الحرب؟
أما السؤال الأكبر فليس فقط فضيحة تدمير سلاح الطيران المصري على الأرض في الساعات الأولى من الحرب، بل ايضا وأساسا لماذا لم يقاتل جيش المشاة بعد تدمير الطيران؟ ولماذا انسحب بتلك الطريقة العشوائية والمحزنة والمخجلة؟ ومن قال إن الجيش كان عاجزاً عن القتال بعدما انكشفت الأجواء للطيران الإسرائيلي؟ من هو أو من هم «أنبياء» هذه العسكريتاريا العربية المخجلة الذين قرروا أن سيناء لا تستطيع أن تقاتل، وأن على مصر ومعها كل العرب أن يتذوقوا مرارة «بهدلة» تاريخية مروعة؟
أسئلة لا نملك معلومات دقيقة تسمح لنا بالاجابة عليها. حجب هذه المعلومات حتى يومنا هذا هو جزء من منظومة الهزيمة المستمرة منذ حزيران – يونيو 1967، لأنه ترك السياسة والثقـــــافة العربيتــين في أسر تأويل ثقافــوي لهزيمة عسكرية وسياسية قرئت خارج اطارها. فالهزيمة العسكرية السياسية يجب أن تُحلل أولاً على المستويين العسكري والسياسي، قبل أن نصل إلى المستوى التأويلي الذي برع فيه الكثير من المثقفين وهم يستعينون بالقاموس الاستشراقي.
قبل التأويل الثقافي للهزيمة من الأجدى محاولة فهم سبب حجب ارشيفها ووثائقها العسكرية. هنا يكمن جوهر الموضوع. وهذا يسمح لنا بفهم مسار الجريمة التي ارتكبتها أنظمة الاستبداد. فسحب الجيوش عندما لاحت بوادر التفوق العسكري الإسرائيلي كان هدفه الأساسي حماية الأنظمة فقط لا غير. ربما فكر عامر بالإبقاء على أشلاء جيشه، ولم يقدّر حجم الكارثة التي حلت به، ما سمح لناصر بالانقضاض عليه بسهولة بعد انتصار هذا الأخير في خطاب التنحي. أما في الحالة السورية فنحن لسنا بحاجة إلى أي افتراض. لقد بدأ الفريق وزير الدفاع انتصاره في الانسحاب من القنيطرة. حماية آلة النظام هي الموضوع ولو كان ثمن ذلك تدمير المدن السورية وإسقاطها بأيدي الاحتلال.
هذه هي معادلة الخامس من حزيران التي وصلت إلى ذروتها في حلب.
من القنيطرة مروراً بحماه ووصولاً إلى حلب وحمص والغوطة ودير الزور ودرعا. المشروع هو إحراق البلد وتدميره إذا كانت سلطة المافيا العسكرية مهددة. اللعبة واضحة ولم تعد بحاجة إلى إيضاح بعدما شرحت لنا العسكريتاريا العربية الحاكمة أنها ليست غير معنية بفلسطين ومأساتها فقط، بل هي أساساً غير معنية بالبلاد التي تحكمها إلا من أجل تأبيد سلطتها. لذا لم تحارب الجيوش العربية عام 1967، وكانت هزيمة حزيران أكثر فداحة من حرب النكبة. أما في النكبة، حيث لم تكن حرب إلا بشكل رمزي، فإن الأنظمة العربية المهلهلة والضعيفة التي كانت تعمل تحت عباءة الامبراطورية البريطانية التي بدأ غروبها، لعبت بالحرب من أجل نفوذها الإقليمي، أما في حرب حزيران فلقد بدأ انكشاف اللعبة التي لم تستر حرب تشرين عوراتها، لأن حرب 1973 كانت محاولة لاستعادة شرعية بدا وكأنها فقدت عام 67.
اليوم في سوريا نفهم لماذا هزمتنا أنظمة الاستبداد العربية. اليوم في الدمار السوري الشامل نفهم لماذا أمر الفريق جيشه بالانسحاب من الجولان، فنحن نعيش الفصول الأخيرة من مهمة هذا الجيش، وها هو يدمّر بلا رحمة، ويسلم البلاد للجيوش الأجنبية، ويستدعي التدخلات الخارجية، وتستولد وحشيته وحشية الداعشيين والنصرويين والى آخره…
عندما باع الماريشال المصري تيران وصنافير لم نجد منطقاً يبرر التخلي عن مدخل العقبة الذي دفعت مصر ثمنه غالياً من دماء جنودها، لكن اذا ربطنا ما يجري في مصر وسوريا، رغم الفروق الكبيرة بين البلدين، وأيام حزيران السوداء، نفهم أن الهاوية التي انفتحت في تلك الأيام الستة تبتلع اليوم ما تبقى لنا.
القدس العربي 7-6-2016