ذبحتنا… يا طفلنا الذبيح- ماجد كيالي

مقالات 0 admin

لم يكتفِ القتلة بذبح الطفل عبدالله في حلب، بدعوى أنه يقاتل مع النظام، بل إنهم صوّروا جريمتهم في مشهد جماعي، بمعنى أن ذلك لم يكن مجرد حدث فردي، وأنهم لم يكتفوا بفعلتهم المشينة، التي تؤكد انعدام الضمير والحطّ من قيمة الحياة والاستغراق في التوحّش، بإخفائها، وإنما أرادوا تمثيلها، وتحويلها إلى رمز، وترويجها، كأنهم في ذلك أرادوا ذبحنا، أو تصويرنا على أننا الذبائح التالية أو مجرد مشاريع على هذا الطريق، في هذه المقتلة البشعة، أو في رحلة التوحّش هذه، التي تسبّب بها النظام منذ أكثر من خمسة أعوام.

لا يمكن تبرئة هذا العمل ولا تبريره، لا بالأخلاق ولا بالسياسة ولا بأي شيء آخر، فهذا مجرد طفل لا يمكن تحميله مفاهيم أو مواقف سياسية أو أيديولوجية، كما ليست جنسيته ولا دينه ولا مذهبه ولا قوميته ولا عائلته ذات أهمية هنا، فهذا طفل وُجد في الوقت الخطأ في المكان الخطأ في الأيدي الخطأ، تماماً مثل الطفل أحمد أبو خضير الذي قتل على أيدي مستوطنين متطرفين حرقاً (قرب القدس 2014)، أو مثل الطفل حمزة الخطيب الذي كان قتل وتم التمثيل بجثته من جانب حاجز لأمن النظام السوري (درعا/ حزيران – يونيو 2011)، ناهيك عن أطفال درعا الذين تعرضوا للتعذيب الوحشي ما أطلق شرارة الثورة السورية (آذار – مارس 2011).

ليس كافياً هنا بيان الإدانة الذي أصدرته حركة «نور الدين الزنكي» التي ارتكب بعض منتسبيها هذا العمل الإجرامي، والذي وصفته بأنه عمل فردي، إذ كان يجدر بهذه الحركة أن تراجع نفسها وتنتقد نمط تفكيرها الذي جعل بعض أعضائها يفعلون ما فعلوه، وأن تعرض هؤلاء على محاكمة فورية، وأن تتحمل المسؤولية عن هذه الفعلة الشريرة. هذا مطلوب، أيضاً، من جماعات المعارضة العسكرية والسياسية، إذ لا يكفي إصدار بيانات تعبر عن القلق والإدانة، مرفقة بنوع من التنصل من المسؤولية، على ما جرت العادة، بإحالة ما جرى إلى مجرد خطأ فردي، في وضع باتت فيه الأخطاء الفردية تطغى على مشهد الثورة السورية، لتزعزع شرعيتها، وتقوّض صدقيتها، وتبين أنها لا تفرق شيئاً عن النظام، وأنها تشبهه كثيراً في لا أخلاقياته، وفي بشاعة ممارساته، وفي انتهاكه الفظ المعايير الدولية في زمن الحرب، واستهتاره بحياة البشر.

لا شيء يقتل الثورات أكثر من فقدانها قيمتها الأخلاقية، أو استهتارها بضرورة تفوّقها الأخلاقي على خصمها، فهذا يعد ضمن ميزاتها، أو في حساب موازين القوى لمصلحتها، إذ إن الأهداف النبيلة يفترض أن تؤيد أو تتسّلح بوسائل نبيلة. وفي هذا الإطار، يجدر إدراك أن الجريمة جريمة، ولا توجد جريمة بيضاء وأخرى سوداء، أو واحدة خيّرة وثانية شريرة، أو أن ثمة مجرمين نبلاء وآخرين سيئون، كما ولا توجد جريمة تبرر أخرى، أو تجبّ أخرى. وفي الواقع، فإن أكثر ما يخدم ويفيد الأنظمة الاستبدادية، هو أن يتشبّه المعارضون بها، بمواقفها وممارساتها، بحيث لا يبقى ثمة فرق بينها وبينهم، وهي تجهد لاستدراج معارضيها إلى هذا المربع. في هذا الإطار يجدر الانتباه أيضاً إلى أنه لا تستقيم إدانة مقتل الطفل محمد الدرة أو أحمد أبو الخير، مثلاً، على يد إسرائيليين مجندين أو مستوطنين متطرفين، والرضى بقتل أطفال لأنهم يهود، فهؤلاء لا يعرفون بعد معنى كونهم يهوداً أو إسرائيليين، وليس لهم أي ذنب في ولادتهم في هذا المكان أو على هذا الدين وليس غيره. كما لا يمكن إدانة قتل الطفل حمزة الخطيب في درعا وقتل الطفل عبدالله في حلب، فلا هذا ولا ذاك يعيان ما يحصل أو يملكان القدرة على التفكير بما يحصل، كما لا يمكنهما حمل السلاح، أو التصديق أنهما كطفلين يمكن أن يقوما بأي فعل مؤذ للغير يستوجب ردة فعل على شكل هذه القتلة الشنيعة.

ليس ذبح الطفل عبدالله حالة فردية، لكنه بالتأكيد ليس حالة عامة، حتى لا نقع في المبالغة، إذ حتى الآن لم تحدث اصطدامات من نوع طائفي في الصراع السوري، على رغم قسوته ووحشيته وبشاعته، بيد أن حالة فردية كهذه باتت تتكرر، بحيث أضحت تشكّل نهجاً عند بعض الجماعات العسكرية المحسوبة على المعارضة، أو ذات الأجندة المختلفة عن أجندة الثورة، لذا فإن هذه الحادثة تحتاج إلى وقفة حاسمة، تدين أعمال كهذه وتجرّمها، وتعزل القائمين بها، وتفنّد منطلقاتها.

القصد أن أعمالاً كهذه، ومثلها حالات الجلد، أو الإعدام، باسم ما يسمى «الشرعيين» والمحاكم الشرعية والمفتين وغيرهم، بات ينبغي وضع حد لها، كما بات يفترض بالثورة السورية استعادة خطابها الأساسي الذي تأسس على إنهاء نظام الاستبداد، وليس فقط إسقاط نظام الاستبداد، كي لا تصبح القصة إنتاج استبداد آخر، وتأكيد اعتبارها ثورة من أجل الحرية والكرامة والمساواة بين المواطنين في دولة مدنية ديموقراطية، فهذا هو التحدي الأخلاقي والسياسي الذي يفترض بالثورة، بمكوناتها السياسية والعسكرية، الاستجابة له في شكل حاسم، لاستعادة صدقيتها وعقلانيتها وصورتها النبيلة، ولتأكيد شرعيتها وضرورتها.

أخيراً، لا يمكن النظر إلى هذه الجريمة النكراء ومثيلتها على أنها نبت غريب، فهي نتاج ثقافة كامنة فينا، تبرر العنف والقسر والقهر واستئصال المختلف. لذا وفي شكل أو آخر، وبهذا القدر أو ذاك، كلنا مسؤولون عن هذه الجريمة، لأن كثراً منا سكتوا عن قتل أطفال آخرين، أو برروا ذلك، باعتبارهم أعداء، لأنهم يهود، مثلاً، أو أتباع دين آخر أو مذهب آخر أو قومية أخرى. مسؤولون لأن كثراً منا صفّقوا ذات يوم لعملية معلوت (1974) التي استهدفت تلاميذ إسرائيليين، ولأمثال سمير القنطار الذي قتل طفلة إسرائيلية في نهاريا (1979)، كما للعمليات التفجيرية في المقاهي والمطاعم والأسواق والحافلات ضد المدنيين في أي مكان. نعم نحن مسؤولون لأن بعضنا سكت عن القتل بالبراميل المتفجرة، ودفن الناس أحياء تحت الركام، كأن هذا القتل أرحم! ولأن بعضنا سكت عن القتل الوحشي في سجون نظام الأسد أو غيره، كما عن نهج من يسمون «أخوة العقيدة» سواء دينية أو علمانية، يمينية أو يسارية، ولأن بعضنا رضي لعبة «المحاكم الشرعية»، وخدعة «الحاكمية»… كثر منا مسؤولون عن ظواهر مثل نظام الأسد وحزب الله وكتائب أبو الفضل العباس ولواء القدس وداعش والنصرة وأخواتهما. لا يمكنك أن تدين قاتل طفلك وتسكت عن قتلة أطفال الآخرين، فالروح الثأرية لا تجدي شيئاً، ولا ينجم عنها إلا مزيد من الكوارث، كما تجعلنا نخسر أنفسنا وإنسانيتنا. مفهوم أن الحروب والثورات والصراعات الأهلية تتضمن وحشية، لكن على الثورات أن تحصّن نفسها وأن تتجنّب الاستدراج الى التوحّش، والتشبّه بالنظام الذي تصارعه، كي تحافظ على صدقيتها، ونبل مقاصدها.

* كاتب فلسطيني/سوري

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة