صدمتنا من السياسة الأميركية بين عهدي بوش وأوباما!- ماجد كيالي
خيّبت السياسات التي انتهجها الرئيس باراك أوباما آمال الكثيرين، أنظمة وحركات سياسية، لا سيما في ما يتعلق بالسكوت عن النظام السوري واللامبالاة إزاء مأساة السوريين، وعدم الضغط على إسرائيل في شأن حقوق الفلسطينيين، ورفض مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة العربية.
واضح أن خيبة الأمل هذه، والصدمة الناتجة منها، تعتمد على قراءة قاصرة وجزئية، لسياسة الولايات المتحدة، كأن هذه دولة عادية وليست دولة عظمى، أو كأنها تشتغل طوع رغبات ومصالح هذا الطرف أو ذاك، أو كأن محرّكها يتأسس على ثوابت معيّنة سياسية أو أخلاقية أو أيديولوجية.
تتجلّى القصة في أن كثيرين عندنا يفكّرون في السياسة بعواطفهم ورغباتهم ومصالحهم وبعقليتهم، بمعنى أنهم لا يفكّرون فيها من منظور الدول الأخرى، أي رؤيتها لذاتها ولمصالحها، وهذا يصحّ على السياسة التي انتهجتها إدارة أوباما، سواء أعجبتنا أم لم تعجبنا. ناحية أخرى هي أن هؤلاء يعتقدون بأن لدى الدول العربية ما تضغط به على الولايات المتحدة لدفعها نحو انتهاج سياسات تتلاءم مع المصالح العربية، في هذه القضية أو تلك، في حين أن الأمر ليس كذلك، إذ إن الولايات المتحدة هي التي تملك أوراق الضغط والقوة، وبخاصة أن تجربتها تؤكد أنها مهما فعلت فإن الدول المعنية لن تستطيع، ولا تملك، الخروج عن طوعها، وعن الاعتماد عليها، سيما في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والأمنية، ما يفسّر صعوبة الانفكاك السياسي عنها.
لم يأت التغيير الحاصل في سياسات الولايات المتحدة التقليدية في عهد أوباما فجأة، وإنما هو حصل قبل ذلك، وبنتيجة مؤثرات كبرى، ضمنها انهيار الاتحاد السوفياتي السابق (مطلع التسعينات)، وانتهاء عالم القطبين، ودخول عصر العولمة، والتحول نحو الهيمنة بواسطة «القوة الناعمة»، أي عبر الوسائل الاقتصادية وبالتجارة وامتلاك التفوق في العلوم والتكنولوجيا ووسائل الإعلام والبنوك والمؤسسات الدولية. فمنذ تلك الفترة لم يعد ثمة تهديدات استراتيجية تقلق الولايات المتحدة في أي منطقة في العالم، وهي باتت تعتمد على تفوقها في المباراة الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية، وسيطرتها على العمليات المالية والتجارية، وهو ما ميّز إدارة كلينتون (1993-2001). ولعل هذا التغير دفع الولايات المتحدة للتخلي عن أحد ركائز سياستها التقليدية المتعلقة بالحؤول دون تمكين أي قوة منافسة من السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، إذ لم تعد ثمة دولة تنافسها، بمعنى الكلمة، كما أن تطورات العولمة، والفجوة الكبيرة بين الولايات المتحدة والعالم في مجالي العلوم والتكنولوجيا، قللت من فاعلية أية منافسة، أو جعلتها شكلية.
بيد أن هذه السياسة خضعت لتغييرات كبيرة في ظل إدارة الرئيس السابق بوش الابن، مع صعود تيار «المحافظين الجدد»، الذين رأوا أنه يفترض تجيير قوة الولايات المتحدة لفرض املاءاتها في العالم ولا سيما في الشرق الأوسط، وهو ما تم تبريره بالهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن (2001)، ما نجم عنه تبني هذه الإدارة عقيدة «الحرب الوقائية»، وقيامها بغزو أفغانستان (2002) ثم العراق (2003). ومعلوم أن الأمر لم يتوقّف عند هذا الحدّ إذ إن إدارة بوش الابن أطاحت ركيزة أخرى من ركائز سياستها التقليدية، المتعلقة بالحفاظ على استقرار الدول الصديقة، وذلك مع مبادرتها بطرح مشاريع «نشر الديموقراطية» و»الإصلاح السياسي» في البلدان العربية و»الشرق الأوسط الكبير» (2002).
القصد من كل ما تقدم التوضيح أن إدارة الرئيس باراك أوباما ورثت هذه السياسة من الإدارتين السابقتين، وأنها تشتغل كاستمرار لهما وإن بوسائل ومفاهيم أخرى، مفادها بأن على العالم، وضمنه العالم العربي، أن يتحمل مسؤولياته في السياسة والاقتصاد والأمن، وأن الولايات المتحدة لا ينبغي ان تتحمل هذه المسؤولية وحدها، ولا ان تدفع الأثمان وحدها، مع الاحتفاظ بحقها في إدارة العمليات السياسية من الخلف. وربما أن هذا يتوافق مع تعبير لبريجنسكي (في كتابه: «بين عصرين») بأن أميركا من موقعها في القوة والقدرة باتت بمثابة «موزّع التناقضات»، كما باتت بمثابة موزّع المكاسب، وضمنهما تشغيلها الآخرين كوكلاء. وقد عبّر توماس فريدمان عن السياسة التي ينتهجها اوباما، ففي مقالة له، في صحيفة «نيويورك تايمز» (3/6/2015)، أكد سياسة «الاحتواء»، وعدم التدخل، وأن «لا نُحلَّ قوتنا نحن محل قوتهم»، وأنه «ينبغي أن يكون هذا نضالهم هم من أجل مستقبلهم». وكان قبل ذلك (24/6/2014) تحدث عن ضرورة قيام العرب بما ينبغي عليهم القيام به، وبأيديهم.
ليس هذا فحسب بل إن إدارة أوباما أضحت تشتغل بطريقة أكثر ارتياحاً مع الركيزتين التقليديتين الأخيرتين، واحدة تتعلق بأمن النفط من المنابع إلى الممرات، والأخرى تتعلق بالحفاظ على أمن إسرائيل وتفوقها النوعي في المنطقة. ففي ما يتعلق بالأولى فإن الاكتشافات النفطية الهائلة في الولايات المتحدة جعلت الإدارة الأميركية متحررة من نفط الشرق الأوسط، أو غير مرتهنة له، من دون أن يعني ذلك تخليها عن مسؤولياتها إزاء اصدقائها، أو عن هذه الورقة التي تعزز مكانتها كقوة دولية في العالم. أما في ما يتعلق بالثانية فإن السياسة التي انتهجتها إدارة أوباما قوضت مفهوم العلاقة المبدئية مع إسرائيل، إذ إن هذه لم تعد بمثابة قدس الأقداس، وباتت مجالاً للأخذ والرد، مع أن ذلك لم يصل إلى حد التخلّي عن دعم اسرائيل والحفاظ على أمنها، أو حد الضغط عليها لفرض املاءات سياسية لا تريدها أو لا تناسبها.
ما ينبغي إدراكه، من كل ذلك، هو أن قوة الولايات المتحدة باتت تتجلّى، في هذه المرحلة، في مجال القوة الناعمة (العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد والإعلام ووسائل الاتصال)، أكثر من القوة العسكرية المباشرة، ما يفسّر سيادة اعتقاد مضلّل ومتسرّع عند كثيرين بضعفها، مع العلم أن قوتها العسكرية تضاهي الدول الكبرى مجتمعة، وأن إنفاقها على التسلح يبلغ 40 في المئة من الإنفاق العالمي. أيضاً، يعزّز من هذا الشعور الحديث عن صعود هذه الدولة أو تلك (روسيا والصين والهند والبرازيل مثلاً)، من دون ملاحظة الفجوة الهائلة في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، ومن دون ملاحظة أن العولمة ساهمت بصعود هذه الدول، وأن القصة تتعلق بصعود بقية الدول وليس بهبوط الولايات المتحدة، وفق فريد زكريا (في كتابه: «ما بعد أميركا»)، على رغم كل ملاحظاتنا على سياسات الولايات المتحدة الخارجية، وحتى على الديموقراطية وإدارة الاقتصاد فيها، فهي ليست بالدولة المثالية، لا «جمهورية أفلاطون» ولا «المدينة الفاضلة». مع ذلك فما يجدر الانتباه إليه هو أن الولايات المتحدة ربما هي البلد الوحيد في العالم الذي حافظ على استقراره وتطوره، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي والعلمي، منذ قيامه (باستثناء سنوات الحرب الأهلية أواسط القرن التاسع عشر)، بارتكازها تحديداً على كونها دولة مواطنين، وإطلاقها الحريات الفردية، واحترامها التنوع والتعددية في مجتمعها أو مجتمعاتها، أكثر من أي بلد آخر، وانفتاحها على المبادرات الفردية واحترامها تكافؤ الفرص، مع الانتباه إلى انها دولة مهاجرين.
لا شكّ في أن السياسات الشرق أوسطية لإدارة أوباما مخيّبة جداً، فهي سلمت العراق لإيران، بعد انسحابها منه، بل إنها بدت كأنها تسهل على ايران تعظيم نفوذها، من اليمن إلى لبنان، مروراً بالعراق وسورية. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن هذه الإدارة تمنّعت عن القيام بأي عمل لوقف تدهور الأوضاع في سورية، بل تركت النظام يمعن فيها قتلاً وتدميراً، ثم لزّمتها لروسيا. وفوق هذين فهي نأت بنفسها عن أي ضغط على إسرائيل يصبّ في إنصاف حقوق الفلسطينيين، وحتى أنها بلعت كل كلامها عن تجميد الاستيطان. لكن ما يفترض إداركه هنا أيضاً، أن الولايات المتحدة تتصرّف على هذا النحو على قاعدة فهمها مصالحها كدولة عظمى لم يعد يهمّها من يسيطر مباشرة في هذه المنطقة (لا روسيا ولا تركيا ولا إسرائيل ولا إيران)، طالما أن ذلك يحفظ مكانتها، ويصون مصالحها، ولا يمسّ بأمنها، بخاصة مع انزياح اهتماماتها نحو جنوب شرقي أسيا، وتزايد اعتمادها على مخزونها من النفط والغاز.
ولعل هذا يفسّر واقع أن الإدارة الأميركية تتفرج على ورطة الجميع، أي روسيا وإيران وتركيا ودول المنطقة في المعمعة السورية، وتشتغل على استنزاف هذه الأطراف وإنهاكها وضرب بعضها ببعض، وهذه ليست إدارة ظهر، وإنما لعب وتورية، وليست إدارة صراع أو أزمة وإنما كاستثمار فيهما، مع إدراكها قدرتها على التحكم، وامتلاكها أوراق القوة، فهي التي تقرر الحسم ومتى. مع ذلك يفترض أن نلاحظ مسارين مهمين وخطيرين، أولهما، خراب المشرق العربي، وتصدع مجتمعاته، سيما العراق وسورية. وثانيهما، ضمان أمن واستقرار إسرائيل لعقود، والولايات المتحدة ليست بريئة لا من هذا ولا من ذاك، مع مسؤولية حكوماتنا عن كل ما يجري لنا ومن حولنا.
* كاتب فلسطيني
الحياة 16-8 -2016