عن حقيقة إنفكاك «النصرة» عن «القاعدة»!- اكرم البني
لم يهدأ الجدل حول إعلان زعيم «جبهة النصرة» الانفكاك عن تنظيم «القاعدة» واعتماد «جبهة فتح الشام» اسماً جديداً، بل ازداد حدة وعمقاً بعد التقدم العسكري الذي حققته المعارضة المسلحة في مدينة حلب، ربطاً بالوزن والدور الكبيرين لجبهة فتح الشام في ذلك، وما نالته من سمعة وتعاطف في أوساط شعبية سورية.
وجهة النظر الأولى تجد أن الانفكاك شكلي وأشبه بلعبة أو مناورة، والدوافع كثيرة، تبدأ بالتفاف «جبهة النصرة» على تصنيفها، كمنظمة إرهابية، في محاولة للتغلب على تصاعد التحديات السياسية والعسكرية، التي تواجهها بعد تقارب أميركي مع روسيا، يشجع على خصها بضربات جوية مثل «داعش»، مروراً بالاستجابة لضغوط بعض رعاتها الإقليميين لتسهيل تمرير دعمهم لها، وتسويغ حضورها في المستقبل السياسي السوري، وإنتهاءً بتوسل الاسم الجديد لمعالجة تردي علاقاتها مع جماعات من المعارضة المسلحة تحسب على الاعتدال، وصلت في بعض مناطق إدلب وحماة إلى صدامات عسكرية، بما في ذلك الحد من ردود الأفعال الشعبية الرافضة لتسلطها واستئثارها ولتعديها على أهم الناشطين المدنيين والإعلاميين، كما حال التظاهرات المناهضة لها في مدينتي مورك ومعرة النعمان.
وتساق لإثبات صورية الانفكاك أدلة كثيرة، أهمها إحجام المولود الجديد عن إعلان انفصاله فكرياً وعملياً عن نهج السلفية الجهادية العنفي، ومجاهرته بموقف رافض للديموقراطية وشرعة حقوق الإنسان، مؤكداً التزامه بجوهر الأهداف والأساليب التي يدعو إليها تنظيم «القاعدة»، مثل العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه، والسعي الى خدمة المسلمين والوقوف على شؤونهم، عبر حماية الجهاد الشامي ورص صفوفه لتحرير أرض الشام، فكيف الحال إن صحت الرواية بأن إعلان الانفكاك تم نتيجة مشاورات مسبقة بين قيادتي «النصرة» وتنظيم «القاعدة»، ليتم الاتفاق على العبارات التي توحي بفك الارتباط، من دون أن تطاول المقاصد الشرعية والتنسيق الضمني بينها؟!
وجهة النظر الثانية تعتبر الانفكاك جدياً وتدرجه في إطار انفصال تنظيمي وسياسي حقيقي عن «القاعدة»، حتى لو احتفظت «جبهة فتح الشام» بالخلفية الإيديولوجية وبقنوات دعم خفية مع الجهادية العالمية.
ولتأكيد الجدية يستند أصحاب هذا الرأي إلى عوامل داعمة، منها أن «جبهة النصرة» تمثلت بلا شك دروس ماضٍ مرير لتنظيم «القاعدة»، مثقل بالعجز والتخبط وعدم الجدوى، ربطاً بثقل المشهد المأسوي السوري، والثمن الباهظ الذي دفعته القطاعات الشعبية السنية من سياسات التصعيد الجهادي، ومنها أن جل العناصر المنضوية في «جبهة النصرة» من السوريين، وهم أقرب إلى العمل المحلي والوطني منه إلى الأممي، وغالبيتهم أكرهت على الالتحاق بالنصرة لتفادي عنف النظام وحماية أنفسهم وتأمين الدعم المادي والعسكري، الأمر الذي يفسر حذر «النصرة» من الاندماج بخطط «القاعدة»، وإحجامها عموماً عن القيام بأية عملية إرهابية خارج البلاد ضد أطراف إقليمية ودولية معادية له.
واستمراراً للجدل السابق تصاعد السجال أيضاً في صفوف المعارضة السياسية السورية حول خيار التعاطي، سلباً أم إيجاباً، مع «جبهة فتح الشام»، كاشفاً ثلاثة آراء متباينة.
ثمة من ينظر إلى الأمر من زاوية أولوية إسقاط النظام، ويدعو إلى التعاون مع «جبهة فتح الشام»، حتى وإن كانت تضمر غير ما تظهر، والغرض شد أزر المعارضة المسلحة في لحظات ضعفها وتمكينها من مواجهة جيش نظامي تتنامى قوته مدعوماً من حلفاء مخلصين، مشيراً إلى أهمية دورها في معركة فك حصار مدينة حلب، ومكرراً لازمة طالما حكمت مواقفه بأن لا مستقبل للتيارات الجهادية في المجتمع التعددي السوري، وأنه لن يمضي وقت طويل بعد سقوط النظام، حتى يخسر الجهاديون ما جنوه جراء الرفض العام لطرائقهم المتطرفة في تطبيق الشريعة ولفقدانهم برنامجاً تنموياً قادراً على تلبية حاجات الناس، ويعزز هؤلاء رهانهم بفكرة تقول، إن تداعيات إعلان الانفكاك، ستكره «جبهة فتح الشام» على التعاطي السياسي وأخذ مصالح حلفائها بالاعتبار، ما يعزز وزن المعتدلين في صفوفها، ممن يهمهم نيل رضا الناس وقبولهم.
وفي المقابل، ثمة من يحذر من أخطار تمرير هذه الخطوة ويطالب بفضحها وكشف صوريتها، على قاعدة رفضه لكل الجماعات الاسلامية التي تحمل مشروع سلطة دينية واصطفاء تلك التي ترفع شعارات وطنية تهم عموم السوريين، مذكراً بمثالب تغطية المعارضة السياسية لـ «جبهة النصرة» عند نشوئها، وما خلفته من أضرار شوهت ثورة السوريين ومكنت أعداءها منها، ومنتقداً من يستهين بوزن «جبهة فتح الشام» ومستقبلها، التي باتت تمتلك اليوم الكثير من القوى وحوافز الاستمرار وتعتاش على مناخ حاضن يتميز بتفاقم الصراع المذهبي في المنطقة وبتراجع ملموس للسياسة على حساب تقدم العنف، وبعجز قوى التغيير الديموقراطي عن كسب ثقة الناس والتقاط زمام المبادرة، فكيف الحال، إن شكلت جبهة فتح الشام، ملاذاً لبقايا المتطرفين المنضوين في داعش، إذا صحت التصريحات الأميركية باقتراب هزيمته؟!
ويتساءل هؤلاء، إذا كان فك الارتباط جدياً وحاسماً، ألا يتطلب خطوات تتجاوز الكلمات المرصوفة إلى إحداث تبدلات جوهرية في بنية «جبهة فتح الشام» وأفكارها وشعاراتها؟! هل يمكنها التنازل مثلاً، عن هدف إقامة دولة إسلامية، وتبني شعار السوريين في دولة ديموقراطية ديدنها الحرية والعدالة والمساواة؟! وهل تتجرأ على التخلي عن المجاهدين الأجانب الذين لا يزالون يؤثرون في قراراتها، والوقوف نقدياً من ممارساتها القمعية السابقة، كاغتيال واعتقال وتهجير أهم قيادات تشكيلات المعارضة وكوادرها، ثم أساليبها في الإخضاع والاضطهاد والقصاص بحق سكان المناطق التي تسيطر عليها؟!
وبين هذا الرأي وذاك يتساءل معارضون بحسرة عما حل بثورتهم؟ أين أصبحت شعاراتها الوطنية الجامعة؟ هل مصيرها أن تغدو رهينة المفاضلة بين استبداد واستبداد، أو بين تيار إسلاموي وآخر؟ هل قدرها أن تستباح في لعبة الأمم؟ وألا تكفي التضحيات التي قدمها الشعب السوري المنكوب لكسر هذه الدورة من المعاناة والألم؟!
* كاتب سوري
الحياة 17-8-2016