في حلبٍ تُسمَع وتُرى..قال لي صبري مدلل: كفى نشازاً-عمر قدور
ينهي الحاج صبري الوصلة قائلاً لي: كفى نشازاً. كنت على وشك الاحتجاج من الإحساس بالغبن، لكنه أسرع بالنظر إليّ غامزاً بعينه ومبتسماً، ثم توجه إلى الفتاة مثنياً على أدائها! قلت له: هات يدك لأقبّلها. فضحك بسعادة من لقّنني درساً في التهذيب مع السيدات، ولا شك لو أنه ما زال حياً، وقرأ هذه الكلمات، لن يكون سعيداً بإفشاء ذلك السر الصغير أمام تلك السيدة. في جلسة أخرى، سيسأله صديقنا “ع” عن رأيه في النساء الموجودات، فيغني الحاج مقطعاً من “أهل الهوى”، يسأله عن رأيه في الحاضرين، يجيب بأنه لا يحب الازدحام.
لم يكن الحاج صبري، إلى وقت طويل، معروفاً على نطاق واسع خارج حلب. فالقدود ارتبطت، حتى في أذهان السوريين، بصباح فخري، ولا يعلم الكثيرون على سبيل المثال أن أغنية “ابعتلي جواب وطمّني” هي في الأصل لصبري مدلل، وقد اشترى اللحن من الشيخ بكري الكردي بمبلغ وقدره خمس ليرات كاملة. والحق أنني لم أسمع هذه الأغنية ولا لمرة بأداء صاحبها، ففي العديد من المناسبات كان يختار لوناً طربياً أكثر صعوبة، على رغم تقدمه في السن آنذاك. الشيخوخة أثّرت فيه في جانب واحد ربما، فقد كان يبدأ وصلته بمقطع من أغنية ما، متنقلاً منها إلى أغنية ثانية وثالثة ورابعة بلا انقطاع، وعندما يريد إنهاء الوصلة ينسى مقام أغنية البداية كي يلتف عائداً إليه، وفق أصول لا أفهمها.
باللهجة الحلبية ينادونه “حجّي”، وهو حاج حقاً، فضلاً عن وظيفته الأساسية كمؤذّن. الجمع بين الأمرين ليس شاذاً في حلب، فهناك العديد من المطربين جربوا موهبتهم في الآذان، والكثير من السهرات الحلبية ينقضي مع الفجر، فيؤدي المطرب الآذان في نهايتها. هذا ما حصل أيضاً في السهرة المذكورة في البداية، ولا يُنقص من قيمته أن صديقاً كان يدس خلسة القليل من الويسكي في كأس الحاج، وأن الأخير تساءل في الكأس الأول عن طعم غريب للكولا التي يحتسيها فأتاه الجواب بنفي أي شيء غريب. أما قصة المؤذنين الحلبيين مع الطرب فهي من المألوف المتداول. فيُحكى أن صباح فخري ومصطفى ماهر، وقبلهم محمد خيري، أدوا الآذان في جوامع الأحياء القديمة. ومن المرجح أن التطوع لأداء الآذان كان يعتمد على حسن الصوت والأداء، حتى أصبح الأمر عادة. فعندما أشرت أمام صديقي القادم من جبلة إلى قرب بيته الشديد من جامع ميسلون، والإزعاج الذي يتسبب به صوت المؤذن في الفجر، فوجئت بأنه يسهر دائماً ليطرب إلى سماع الآذان، كل فجر على مقام مختلف. جدير بالذكر أن حلب وحدها فيها آذان شجي جداً، اسمه آذان الميت، وهو يُطلق على المنبر فقط عند النعي، ويُرجح أن يكون “لحنه” على قدِّ لحن سرياني قديم.
ربما كان الحاج صبري أقل حرصاً من مطربين آخرين قادمين من البيئة الدينية، ففي مناسبة تصوير فيلم عن المنشد حسن الحفار، رفض بشكل قاطع حضور أي امرأة التصوير، خشية ظهورها في الفيلم والتسبب في إحراجه. حينها دعاني للحضور صديقي حسن خليفة، الذي عمل مديراً لإنتاج الفيلم مع مخرجته الفرنسية، فحضرت رغم قناعتي بأن صوت حسن الحفار أقوى وأصلب مما أحب. غنى الحفار أول وصلة من القدود، وعندما توقف للاستراحة سألني عن رأيي ظناً منه أنني من طاقم العمل، فشعرت بارتباك شديد. فقد كان من الأجدى لو أخذ رأي العصافير التي هبطت على حافة بركة الماء في ذاك البيت الحلبي العتيق كي تنصت له. لا أدري بماذا مدحته وأنا متلعثم، كنت أقف إلى جوار الموسيقي المعروف أيضاً نوري إسكندر، فتوجه إليه بالسؤال ذاته، أمسك نوري بيده قائلاً: هات يدك لأقبّلها. وهذه كما بات واضحاً جملة لا توضع قيد التنفيذ، وإنما تُطلق دلالة على التقدير الشديد.
صديقنا الموسيقي نوري إسكندر “مالفونو”، الذي كرّمته الحكومة السويدية آنذاك، بإحدى طوابعها وقّاد الذهن دائماً في ما يتعلق بالموسيقى، الأمر الذي يعوّضه بالشرود والنسيان الدائمين في ما عداها. يروي ابن اخته أنه عرّفه على صديق له قائلاً: أعرّفك على صديقي جورج. فردّ نوري مرحّباً: أهلاً طوني. وربما لا يُعرف على نطاق واسع اشتغاله القديم على فرقة ظهر منها العديد من الأصوات، منها المطربة ميادة بسيليس.
سأرى لاحقاً تسجيلاً لسهرة خاصة في البيت العتيق نفسه، وسأرى العصافير تهبط إلى حافة البركة أسراباً لتنصت إلى عزف رائع على القانون. ذلك العازف، الذي سيسره على الأرجح عدم ذكر اسمه، كان قد ترك الموسيقى لأن شيخه نهاه عنها بوصفها حراماً، فتفرغ لعمله في إصلاح مواقد الكاز التي انقرضت في ما بعد نهائياً. لا أدري إذا كان على دراية بما خسرته الموسيقى بعدم تفرغه لها، لكنها كانت المرة الأولى والأخيرة التي أرى فيها أسراباً من العصافير ساكنة ومنصتة تماماً، بينما هناك عشرة عصافير تتقافز برشاقة لا مثيل لها وتنقر أوتار القانون. أيضاً جيران ذلك البيت كانوا يعتلون أسطح منازلهم لينصتوا إلى الموسيقى المنبعثة منه، وهو الاهتمام الذي لا يبدونه بالتأكيد عندما يستضيف صاحبه ندوة سياسية. فصاحب البيت، سلام عوض، كان لا يردّ طلباً لاستخدام البيت لغرض عام، وهذا كان مصدر إحراجنا الوحيد. محبة سلام الفائضة ربما هي التي أبقته في حي باب الحديد القديم، رغم أنه شهد اغتيال والده الشيوعي من قبل الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين مطلع الثمانينات.
على أية حال، لم تكن محبة “الإخوان” سائدة آنذاك، حسبما يوحي به تركز المواجهة بين الإخوان والسلطة في حماة وحلب. فالتدين الحلبي أقرب إلى الصوفية والدروشة، ولعل هذا ما يفسّر ذلك الترابط بين ما هو ديني الموسيقى. وهذا أيضاً ما يفسّر، بحسب رأي دارج، نشأة القدود الحلبية. وربما كان البُعد عن الإعلام الذي تتميز به حلقات التصوف أو الدروشة تاريخياً هو ما جعل الموسيقى بالنسبة للحلبي شأناً خاصاً، وخلّف نفوراً من أولئك الذين تسوّقهم الميديا الحديثة. الحلبي لا يعترف مثلاً باستحقاق صباح فخري الشهرة التي نالها، ويذهب فوراً إلى مقارنته بمحمد خيري الذي يعدّه مظلوماً على صعيد الشهرة. قد يثني الحلبي على أداء ربى الجمال “الحلبية” أغنية “افرح يا قلبي”، وبالطبع على أداء المطربة حنان، لكنه لا يبدي أدنى اكتراث بميادة الحناوي التي أطلق عليها الإعلام يوماً لقب “مطربة الجيل”. أما موقف الأخيرة السياسي، الموالي لبشار، وأداؤها أغنية تشيد بالحشد الشيعي العراقي، فقد لا يعدو كونه استئنافاً من جانبها لتلك القطيعة.
سأقول لنفسي بعد سنوات، أنني أيضاً لم أنجُ من تلك اللوثة الحلبية. فعندما كنت أستمع إلى مختلف التسجيلات لدور “أصل الغرام”، لفت انتباهي أداء “موشيه إلياهو” لذلك الدور، فضلاً عن تسجيلات أكثر شهرة. لم أكن أعلم أنه إسرائيلي من أصل حلبي، وعندما بحثت عن اسمه وعلمت أنه حلبي الأصل شعرت باطمئنان غريب إلى سلامة سمعي! بالتداعي، تذكرت لحظتها تلك السيدة في حلب، التي انفردت بساحة الرقص في حفلة عامة، وراحت ترقص على دور “أنا هويت وانتهيت”. تذكرت صديقنا الدكتور المتديّن، الذي حمل كرسيه وجلس قبالتها على “المسرح” مشدوهاً وهو يرى موسيقى سيد درويش تتسرب إلى جسدها بالوراثة. كنت قد غادرت حلب منذ سنوات طويلة، لكنني عندما أسمعها بين فترة وأخرى أقول لنفسي: كل المدن تُرى، وحدها حلب تُسمَع وتُرى.
المدن 25-8-2016