داريا ليست أول انتصارات نظام الأسد ولا آخرها-لؤي حسين
حينما لا نرى في تجربة استسلام داريا سوى معاني صمود فرسان مقاتليها، وهذا صحيح، ومجرد خذلان المجتمع الدولي لما بقي من سكانها، وهذا أيضاً صحيح، وحجم الدمار الهائل الذي أوقعته قوات النظام بأبنيتها وبيوت سكانها، فهذا يعني أننا لم نقرأ درس داريا جيداً، بل لم نقرأه بتاتاً، أو ربما ما زلنا أميين سياسياً.
لكن لا يمكننا الاكتفاء بالنظر إلى تجربة داريا بهذه الطريقة، فحقنا التاريخي بثورة نبني فيها دولتنا على قواعد المساواة التامة وحقوق الإنسان، وليس وفق قواعد المنتصر بالسلاح والعنف، ومسعانا لإنهاء النظام الاستبدادي الجائر بهدف إقامة نظام ديموقراطي يقوم على المواطنة، وليس لاستبدال طغيان قومي إسلامي بطغيان جهادي إسلامي أسوأ منه، يحتّمان علينا الاجتهاد في قراءة تجربة داريا بطريقة عقلانية ونفعية وطنية، وليس بطريقة عاطفية أو انفعالية أو عدمية.
ولكن لا بد من التنويه قبل أي كلام بأن قمع النظام ووحشيته وانحطاط مخابراته في تصديها للمحتجين السلميين حين تظاهروا في آذار (مارس) ٢٠١١ كان أقسى من أن يحتمله أشخاص ليسوا ممكّنين من العمل في الحقل العام، وثقافتهم العنفية تفوق كثيراً ثقافتهم السلمية، بحيث لا يميّزون السلم والنضال السلمي عن الاستسلام. فضلاً عن أن كل ما يمتلكونه من معرفة نضالية تقتصر على الجهاد الديني القائم على حد السيف وانتصار الغالب، أي انتصار الرأي بالقوة. لهذا كان من البديهي والمبرَّر أن يستعين بعض الأشخاص على قسوة النظام باستخدام أسلحة بيتية بسيطة. وبناءً على هذا قلت مراراً خلال الأعوام الماضية: من يحمل السلاح دفاعاً عن نفسه أو أسرته فهو سلمي.
لكن ليس هذا السلاح إطلاقاً هو السلاح الذي نتحدث عنه في خطابنا السياسي كأداة ووسيلة في الصراع القائم في سورية. فموضوع الدفاع عن النفس لم يطل الكلام عنه، حتى بتنا نسمع شخصيات مقيمة خارج البلاد، تم تمكينها من محطات تلفزيونية واسعة الانتشار، تدعو لحمل السلاح بذريعة عقم النضال السلمي في تحقيق إسقاط النظام، وعدم جدوى مواجهة الرصاص بالصدور العارية. ولم تمضِ سوى أسابيع بعد ذلك، حتى أُعلن عن العمل العسكري المنظم ضمن تشكيلات عسكرية مقاتلة، إسلامية وغير إسلامية.
إذاً، نحن نتحدث عن «السلاح الثوري» الذي امتُشق بهدف إسقاط النظام، وغيّر اسم الحراك السوري من الانتفاضة إلى الثورة، وبموجبه أصبح المسلح يفرض سيطرته على المتظاهرين والمحتجين والمعارضين، بعدما بات سيد الميدان. هو السلاح الذي أصبح حامله، حتى لو كان أمياً وجاهلاً، يمتلك مقاماً ثوريا أهم من حامل الرأي. السلاح الذي جعل الأطراف الدولية تتحكم برقاب السوريين عموماً، وبأطراف الصراع من النظام والمعارضة. السلاح الذي كان أهم عامل في انتصار النظام وجعله الطرف الغالب.
«السلاح الثوري» كان العامل الحاسم في انتصار النظام على داريا وعلى الانتفاضة السورية عموماً. وهذا الرأي ليس وليد استسلام مقاتلي داريا الآن، بل هو كلام لطالما رددناه منذ نيف وخمس سنين، منذ انطلاق المظاهرات في سورية، بل حتى قبل ذلك، منذ بدأنا تحريضنا على التظاهر والاحتجاج للالتحاق بمسار الربيع العربي الذي كنا آخر مواكبيه بين البلدان. فآنذاك دعَونا مراراً لأن يكون صراعنا وفق معادلة الحق مقابل القوة، وليس وفق القوة بمواجهة القوة. لأن المنتصر في الصراع العنفي لن يكون صاحب الحق بالضرورة، بل سيكون صاحب القوة الأكبر. والمنتصر بالسلاح لن يكون رافعاً لراية الديموقراطية، بل مشرّعاً لراية الغالب، أي لن يتغير علينا شيء، إذ سنبقى تحت حكم الغالب الطاغي.
لم يكن يحتاج الأمر إلى حذاقة أو ذكاء فريد حتى ندرك حينها أن مواجهة النظام بالسلاح سيكون مقتل حراكنا وانتفاضتنا، وأن السلاح سيمنح النظام كل المقومات الكفيلة بانتصاره واستمرار استبداده وطغيانه. فالبداهة تقول إن النظام السوري سيواجه المسدس بالبندقية، والرشاش بالدبابة، والمدفع بالطائرة، وسيحرق الأخضر واليابس: لأنه نظام وحشي هائج، لن يتوانى عن القيام بأي شيء في مواجهة من يتحداه، بما في ذلك حرق البلد مقابل بقاء الأسد، بناءً على الشعار الشهير: «الأسد أو نحرق البلد»، فكيف إن حظي بمعارضة تقول: نحرق البلد ولا يمكن أن نقبل ببقاء الأسد. وقد نفّذ الطرفان وعيدهما وأحرقا البلد.
إن كانت إيران أو روسيا ساهمتا الآن بانتصار النظام على مقاتلي داريا من خلال دعمهما له، فالمسؤول المباشر عن هزيمة داريا هو «السلاح الثوري» الذي تسبب بتهجير أكثر من تسعين في المئة من أهاليها، حين استدعى بوجوده الطائش الأرعن رداً وحشياً من النظام، تسبب بهجرة الأهالي ودمار جميع الدور والمباني.
هذه الحال لا تخص داريا وحدها، فهناك العشرات من الأمثلة المشابهة، لكنني اخترتها لكونها مثالاً صريحاً لمآلات اعتماد السلاح والعنف لمواجهة النظام، ولكونها كانت رمزاً للنضال السلمي، ورمزاً للنضال المنظم قبل تخريب نضالها هذا بالسلاح. وكذلك لشهرة داريا التي اعتمدها «قوالو الثورة» للتغني بالصمود والبطولة إلى أن جاءت واقعة الاستسلام المفاجئة، التي حصلت من دون وجود أي متغيّر جديد في سياق المعارك، لتشكك في أن هذا الصمود كان بإرادة النظام وليس بإرادة «الثوار». فالحصار هو نفسه، والبراميل هي نفسها، وتجويع المدنيين هو نفسه. أما الكلام الذي يقول بأن المقاتلين فضّلوا الاستسلام بعدما هدد النظام بقصف المدنيين، فهذا يكذّب ما كان قالوه سابقاً عن استهداف النظام للمدنيين، بدل أن يقولوا إن النظام لا يأبه لوجود المدنيين إطلاقاً، حين يقصف المسلحين ببراميل غير دقيقة التوجيه.
لم ينتصر النظام على داريا وعلى انتفاضتنا الآن، بل كان ذلك منذ خمس سنوات، مذ أصبح هدف الثورة هو فقط إسقاط النظام، بل إسقاط رئيسه، ولم يعد هدفها استبدال هذا النظام بنظام ديموقراطي كفيل بإطلاق الحريات وإقرار الحقوق وتحقيق المساواة. وبالتالي صار يمكن لأي مجموعة طغيانية جهادية أن تقوم بمهمات هذه الثورة العدمية، التي بتغيّر هدفها لم تعد تحتاج إلى الديموقراطيين والحرّويين (مناضلي الحرية) الذين لا تقبل أهدافهم حمل السلاح. ومع مضي الزمن بالترافق مع غزارة تدفق المال السياسي الإسلامي الجهادي على سورية، باتت هذه المجموعات الجهادية تشكل كامل قوام هذه الثورة المزعومة.
انتصر النظام منذ قبلت الأطراف المعارضة الاحتكام لساحات العنف والسلاح لتكون فيصلاً في الصراع معه، إذ مكنته بذلك من الاستعانة بدعم روسي وإيراني ما كان سيكون له ذات التأثير على الصراع لو بقي سلمياً. وانتصر لأن «السلاح الثوري» يحتاج بالضرورة إلى تدويل الصراع، كون السلاح لا ينبت في حقولنا وحدائقنا، بل يحتاج إلى أطراف دولية تموله. والتدويل فضلاً عن أن معناه الجلي هو أن نصبح خدماً ومأجورين للدول، وأن تتصارع هذه الدول بدمنا وأرزاقنا وعلى أرضنا، فمعناه أيضاً أن هذا الصراع محكوم عليه بأن يبقى متعادلاً، طالما الموازين الدولية متعادلة.
انتصر النظام منذ تخلينا عن احتساب مكاسبنا بمقدار اتساع مساحات الحريات والحقوق، كخروج مظاهرة، أو إطلاق سراح معتقلين، أو عقد مؤتمر سياسي، أو تشكيل تنظيم سياسي أو هيئة سياسية، أو تعديلات قانونية أو دستورية أو غير ذلك من مكونات الحقل العام، ليصبح احتساب المكاسب وفق عدد القتلى الذين يسقطون ليس في صفوف جنود الجيش أو المخابرات أو مناصري النظام فقط، بل أيضاً وفق عدد القتلى الساكنين في مناطق سيطرته، ووفق الخراب الذي يقع على البنى التحتية، كالماء والكهرباء، التي يمكن أن يستفيد منها ساكنو مناطق سيطرة النظام.
لقد فات الأوان كثيراً على الدعوة لعدم التسلح أو على محاولات عدم التدويل، فهذا الأمر مضى، والخراب عمّ البلاد. لكن هذا المقال محاولة بسيطة لتلمّس جانب من الأسباب التي أوصلتنا لحد الآن إلى ملامح تشي صراحةً بانتصار النظام. والمقال يعتبر أن ما جرى من دمار للبلاد فوق رؤوس أهاليها، كحال داريا، لم يكن بسبب وجود نظام استبدادي وحشي فقط، ولا بسبب وجود دول داعمة له، بل ساهمت في ذلك في شكل فعلي أسباب أخرى كان بينها «السلاح الثوري» الذي خطف حق السوريين بثورة حرية، وجعل من انتفاضتهم مجرد ثورة سلفية جهادية عدمية، لا تستهدف إطلاقاً تحقيق الحرية والمساواة والديموقراطية للسوريين.
لقد حاول المقال تذكير المناضلين الديموقراطيين والحرّويين، الذين استسلموا وتركوا الساحة للقوى الجهادية وللمعارضة التسليحية، بأن ثورة الحرية ما زالت استحقاقاً تاريخياً يتوجب عليهم إنجازه، وأنه بناءً على ذلك تترتب عليهم خطوة مزدوجة تقوم على عدم الإقرار بانتصار النظام، لأن ذلك سيجعل منه نظاماً فاشياً لم تشهد له البشرية مثيلاً، والإطاحة بجميع من كان من دعاة التسلح من أطراف وشخصيات المعارضة.
* رئيس «تيّار بناء الدولة» في سورية
الحياة 6 ايلول-2016