الانهيار السحيق لمفاهيم الأنسنة في العالم العربي – ناصر الرباط

مقالات 0 admin

حصلت الوحدة بين سورية ومصر وانهارت (1958-1961) عندما كنت طفلاً صغيراً في دمشق. لا أذكر الكثير عنها سوى خيالات عبد الناصر وهو يخطب في ساحة قصر الضيافة أمام حشود من المؤيدين الملتهبين حماسة وهم يصرخون «ناصر، ناصر» (الذي ظننت أني أنا ابن الرابعة المقصود بهذا الهتاف)، وهمسات الأهل عن تزايد عسف الاستخبارات في الرقابة وإرهاب وتعذيب وأحياناً قتل المعارضين. لم يكن عسف السلطة في بلادنا جديداً طبعاً ولا كان التعذيب مجهولاً. ولكن الجديد الذي أدخلته استخبارات عبدالحميد السراج هو تنظيم هذا العسف ومأسسته بحيث أن الرقابة والتجسس والتعذيب أصبحت من أدوات الدولة الاستئثارية التي يستخدمها النظام في قمع معارضيه وتكميم أفواههم وأحياناً التخلص منهم وتخويف كل المواطنين لكي يتلافوا أي نشاط يمكن أن يعرضهم لسخطه.

قبل السراج وعبدالناصر كان اضطهاد الدولة مزاجياً وقبلياً ومشخصناً وخاضعاً لاعتبارات النفوذ والتزلم والأريحية والعفو مما تفرضه الهيكلية ما قبل الحداثية لغالبية الدول العربية الحديثة النشأة. بعد السراج وعبدالناصر أصبح اضطهاد الدولة جزءاً من هيكلها وأداة من أدوات سيطرتها الأساسية، استقدمت لتطويرها خبرات متقدمة من الغرب والشرق، من الـ «سي آي إيه» والمكتب الثاني الفرنسي، إلى الـ «كي جي بي» والستاسي الألمانية الديموقراطية.

انتشر النموذج في كل الدول العربية، ملكية أو أميرية كانت أم جمهورية. فالأنظمة التي بدأت حياتها السياسية بخليط من الأعراف والعادات وتقاليد الحكم (التعسفي طبعاً) شهدت تطويراً متبايناً لمنظومتها وأجهزتها خلال النصف الثاني من القرن العشرين حصلت أجهزة الاستخبارات على نصيب الأسد منه عدداً وعتاداً وتساهلاً قانونياً ومالياً. صارت هذه الأجهزة أقوى مؤسسات الدولة وأكثرها استقلالية وترفعاً عن المساءلة، تتنافس في ما بينها للحصول على رضا الحاكم الواحد الأوحد الذي انبثق عما سبقه من أنظمة شبه سياسية بحجة حمايته وتأمين نظامه. أصبح القمع والتعذيب ممنهجين، وتجذرت أدواتهما ومفاهيمهما وسطوتهما في المخيال العام العربي من المحيط إلى الخليج. ودخلت مصطلحات مثل المخبر وعنصر الأمن وزوار الليل القاموس الشعبي كمعادلات معاصرة لمصطلحات أقدم وأقل واقعية منها ولكن ذات دلالة مثل البعبع والغول والشبح.

هذا التطور، السياسي أساساً بحكم ازدياد تمحور أنظمة الحكم العربية الجمهورية حول الحاكم الفرد المطلق السلطات بعد هزيمة الـ١٩٦٧، ارتكز على ركود ثقافي ومعرفي أعمق غوراً وأشد ضرراً. فتغول الأنظمة الحاكمة وإحكامها قبضتها على مواطنيها وازدياد اعتمادها على القمع في تأمين سيطرتها والدفاع عن امتيازاتها لم يأتِ من فراغ، بل اعتمد على أرضية ثقافية ومعرفية متجذرة هيأت لهذه الأنظمة السبيل للاستشراس الذي شهدناه في العقود الثلاثة الأخيرة قبل، وبخاصة بعد، ثورات الربيع العربي. طبعاً هناك الخلفية القاتمة للفشل المدوي في تحقيق حلم دولة المواطنة الحديثة بخاصة بعد الانقلابات العسكرية وصعود الأنظمة الرعناء في الخمسينات والستينات. ولكن حتى هذا الفشل يعود بجذوره لما هو أقدم منه من تراث شمولي على مدى قرون متطاولة سابقة كان الأمراء والملوك والسلاطين فيها أصحاب السلطة المطلقة يؤازرهم في تأطيرها ضمن إطار شرعي إسلامي طبقة من «العلماء» الذين استكانوا لتوزيع الأدوار بينهم وبين السلطة، والتي يمثلها أصدق تمثيل عبارتي أهل السيف، لماسكي زمام الحكم الحقيقيين، وأهل القلم، للفقهاء والكتاب الذين يديرون دولتهم ويسوغون تصرفاتهم أمام المحكومين.

لم تتغير الحال كثيراً مع نشوء الدول الحديثة على أسس وطنية في القرن العشرين. فعلى رغم المظاهر الحديثة التي استنزلتها الأنظمة والطبقات المتعلمة تنزيلاً على القواعد المعرفية القديمة، فإنها لم تطور أو تراجع أو تنقد هذه القواعد إلا فيما ندر. بل هي على الغالب قد استخدمتها لتثبيت سلطتها وإن كانت قد حاولت تجاوزها في حياتها الخاصة. بقي الحال كذلك حتى مع صعود حركات أكثر «تقدمية» للحكم كما حصل باستلام حزب البعث للسلطة في سورية والعراق أو خلافة أنور السادات لعبدالناصر وتحويله سياسة مصر باتجاه الليبرالية الغربية واقتصاد السوق. طبعاً كانت الأمور أكثر بساطة بالنسبة الى الأنظمة التقليدية التي لم تضطر لادعاء الحداثة أصلاً بل حافظت على القوالب التقليدية للحكم مضافاً إليها أدوات القمع الجديدة.

في هذه الأجواء المأزومة كان من الصعب لنبتة الأنسنة التي وصلتنا من ضمن ما وصلنا من منتجات الفكر الحديث أن تينع. بل إنها ذوت واضمحلت بعد انتعاش أولي بسيط بتأثير التراث العميق لتفضيل حق الجماعة على حقوق الفرد من جهة والقبضة الحديد التي اعتمدتها كل الأنظمة العربية من دون أي استثناء يذكر من جهة أخرى. أول الضحايا كان الحقوق القانونية والدستورية المتواضعة التي تدهورت تدهوراً شاملاً تحت الأنظمة الشمولية. ثم جاء تراجع الفكر الإنساني والنقدي اليافع الذي كان قد بدأ يظهر في بدايات القرن العشرين في أعمال مفكرين وأدباء وفنانين من الشام ومصر والعراق وشمال أفريقيا، وتبعه اضمحلال المؤسسات النقابية الخجولة. هكذا أصبح الجو مهيأً للأنظمة للانفلات من كل سلطة أدبية أو قانونية أو دستورية للحفاظ على مكاسبها. فانطلق توحشها من عقاله من دون رادع أو رقيب. وتضاعفت أعداد مساجين الرأي والاعتقاد والسياسة الذين يعتقلون من دون محاكمة ويعذبون وأحياناً يقتلون أضعافاً مضاعفة. ولم تعد الأنظمة بحاجة إلى أي غطاء قانوني أو أخلاقي لتبرير تغولها، بل إنها لم تعترف به أصلاً وأبقت كل المعلومات عن ممارساتها الهمجية سراً.

هكذا وصلنا إلى حيث نحن اليوم. تتبارى أنظمتنا المتهالكة في القمع والسجن والتشريد والتجريد من الجنسية والتعذيب والاغتيال وقصف المناطق الثائرة عشوائياً، ويتبارى أعداؤها الثائرون والمسلحون من كل الاتجاهات، مع غلبة الجهاد التكفيري طبعاً، في التفجير والتفخيخ والقتل والتعذيب. كلا الطرفين فقد انسانيته أو طرحها من ضمن ما طرح من معطيات ثقافة الأنسنة التي رفضها. لكننا نحن أيضاً، الناس، الشعب، المواطنين، الأفراد، فقدنا إنسانيتنا أيضاً. فقد رضخنا لسطوة أنظمتنا الغاشمة وقبلنا بالوضع المأسوي لحقوق الإنسان ونسينا معذبينا وسجناءنا بل واستمرأنا مناظر التعذيب على وسائل التواصل الاجتماعي التي تحقق أكبر أرقام مشاهدة. ولعل المستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا لم يذع سراً حين كتب عام ٢٠٠٣: «السجناء السياسيون في البلدان العربية ضحوا من أجل الشعب، ولكن الشعب نفسه يضحي بأولئك الشجعان. انعدام حس المسؤولية طاغٍ في مجتمعاتهم». وأزيد عليه، انعدام الإنسانية طاغٍ أيضاً. وللحديث تتمة.

 

* كاتب سوري وأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T.

الحياة 07/09/2016

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة