6 مناطق نفوذ خارجية في سورية: مكاسب جغرافية وتنازلات سياسية- إبراهيم حميدي
انتهى وهم الضربة القاضية. ليس سوى سراب طموح «الحسم» باستعادة القوات الحكومية السورية و «الدولة» كامل البلاد.
ليس سوى وهم، تمسكُ المعارضة بـ «سقوط النظام بجميع رموزه ومرتكزاته». على الأقل، حالياً، النظام ليس قادراً على اجتراح حل سياسي – عسكري يمكّنه من العودة إلى حكم البلاد والعباد. أيضاً، فإن الحديث عن حل سياسي يتضمن تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة تسيطر على سورية، يبدو حلماً لا علاقة له بالجغرافيا والديموغرافيا في سورية.
مثلما تبدو هذه الأمور، بعد خمس سنوات، بديهية، في قاموس الواقعية السياسية المؤلمة، فإن الاعتقاد بإمكان العودة إلى الوراء، إلى عام ٢٠١١ أو إلى ما قبل قبل عام ٢٠١١، أي إلى الثمانينات من القرن الماضي، يبدو وهماً يقاربه الوهم بأن النظام انتهى. لا «الثورة انتصرت» ولا «النظام حسم». سورية التي نعرفها هي المهزومة الوحيدة. السوريون مقهورون وممزقون داخل البلاد وخارجها.
من يعرف من السوريين، نظاماً ومعارضة، بهذه الوقائع يصعب عليه الإقرار بها أمام جمهوره. الحقيقة مرّة ومؤلمة. فالنظام يتحدث عن «السيادة» وازدهار موسم السياحة و «الانتصار على الإرهاب والتكفيريين». والمعارضة تتحدث عن «احتلال» وضرورة «الانتقال السياسي». لكن الدول الراعية والحليفة للأطراف السورية أجرأ في مطاردة مصالحها.
التدخل الروسي المباشر ضبط الطموحات الإقليمية والدولية في سورية. طالما أن إدارة الرئيس باراك أوباما غير راغبة في التدخُّل المتحدي لجرأة الرئيس فلاديمير بوتين، ما على الدول إلا العودة إلى الأساسيات في مصالحها بعيداً من الأهداف المستقبلية، إلى حين قدوم رئيس أميركي جديد.
بوتين العراب… وغرفة زجاج
هذه المعادلة فرضت روسيا عنواناً لبحث سورية، وبوتين عراباً للإخوة الكبار والصغار. أيضاً، باتت الأطراف المنخرطة في سورية مستعدةً لقبول مناطق نفوذ، أي كسب في الجغرافيا في مقابل التنازل في السياسة، فباتت سورية مقسمة إلى مناطق نفوذ بين قوى متصارعة. الروس في جو مظلة ورعاة لمصالح متناقضة على الأرض السورية، والأميركيون في الأجواء حماة لمصالح حلفائهم… إلى الآن. وفي الأيام الأخيرة، باتت الأطراف ترقص بتناغم يستعجل تقاسم نطاق السيطرة بطريقة ما، بحيث يمكن الحديث عن ست مناطق تتقاطع وتتخاصم:
أولاً، منطقة النظام وحلفائه
وتمتد من السويداء ومدينة درعا جنوباً إلى دمشق مروراً بحمص، ووصولاً إلى طرطوس ومدينة اللاذقية. إيران، التي ضمنت عدم سقوط النظام واستثمرت بكل طاقاتها العسكرية والأمنية والاقتصادية والبشرية والعقائدية والطائفية لضمان عدم حصول ذلك، حققت معظم أهدافها المباشرة جغرافياً، إذ حمت ظهر «حزب الله» بالسيطرة المباشرة على ريف دمشق المتاخم للحدود اللبنانية، وسيطرت على المزارات الشيعية في دمشق وجوارها، وشاركت في مشاريع تغيير الطبيعة الديموغرافية لدمشق لتوفير «الثلث المعطّل» جغرافياً لأمد ليس ببعيد، كما ضمنت موطئ قدم على البحر المتوسط وخطوط الإمداد العسكري والعقائدي إلى «حزب الله».
الشيء الوحيد الذي حرمت منه، توفر قاعدة لوجستية عسكرية لـ «المقاومة» في هضبة الجولان المحتلة، وربط القسم السوري بجنوب لبنان. هذا «خط أحمر» رسمه الإسرائيليون وضمنه بوتين لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. اختبرت إيران هذا «الخط» وما إذا كان مثل «الخط الأحمر» الذي رسمه أوباما ولم يلتزمه لدى استخدام الكيماوي عام ٢٠١٣، وتأكدت إيران وحلفاؤها أن «الخط الأحمر» الإسرائيلي جدي. ولا شك في أن الخط الساخن بين تل أبيب والقاعدة الروسية في مطار حميميم موجود للحالات المستعجلة.
الراعي الأساسي لهذه المنطقة، هو الطيران الروسي. طبعاً، هناك شكوك وعدم ثقة بين موسكو وطهران. اختلاف في الأولويات والمصالح الاستراتيجية يظهر في غياب التنسيق المباشر وعدم وجود غرف عمليات عسكرية بين روسيا وإيران و «حزب الله». لكن، إلى الآن، تتلحف إيران بالغطاء الجوي الروسي للضغط على المعارضة وتعرض قواعدها العسكرية وأجواءها. وتستفيد روسيا من عدم رغبتها في النزول على الأرض، من الميليشيات الإيرانية. زواج مصلحة في انتظار الطلاق أو الانفصال أو المساكنة.
فـــــي هذه المنـــطقة، هناك قاعدتان عسكريتان روسيتان في طرطـــــوس واللاذقية وقاعدة صواريخ «إس -٤٠٠» توفر الإمداد الجوي والاستخبارات والذخيرة مع وجود «إلى الأبد». وهناك قاعدة إيرانية في «غرفة زجاج» قرب دمشق لإدارة العمليات الإيرانية، وهناك حصن منيع في السيدة زينب. الإيرانيون يدعمون الميليشيات والقوى غير النظامية، والروس يسعون إلى تعزيز الجيش السوري والقوى التي تمثل ما تبقى من الدولة.
ثانياً، منطقة الأكراد و «داعش»
تقع في هذه المنطقة ثلاثة مطارات عسكرية أميركية. اثنان في ريف الحسكة وثالث في عين العرب (كوباني) ينتشر فيها حوالى ٢٥٠ خبيراً أميركياً. في الجو قاذفات أميركية هي جزء من التحالف الدولي ضد «داعش». تمتد مناطق النفوذ شمال شرقي سورية، مناطق انتشار الأكراد شرق نهر الفرات، إضافةً إلى عفرين غرب نهر الفرات. الغطاء الأميركي والدعم العسكري في الحرب ضد «داعش» رفع من طموحات الأكراد، في شكل مشابه لما حصل شمال العراق بعد حرب الخليج في التسعينات. منطقة الحظر الجوي بعد حرب الخليج، عززت تحويل طموحات الأكراد إلى «كردستان العراق».
أسس الأكراد قوات «حماية الشعب الكردي» من أكثر من ٥٠ ألف مقـــاتـــل ضمن خطة لتصبح مئة ألـــف، وأطلقوا إدارات محليةً وانتقلوا في السنتين الأخيرتين إلى شكل منظم. بقيت خطوة واحدة هي ربط إقليمَيْ الجزيرة وعين العرب بعفرين مستفيدين من الدعم الأميركي.
هذا كان «خطاً أحمر» بالنسبة إلى الأتراك الذين يعتقدون بأن قيام إقليم كردي شمال سورية يعني إلهام أكراد جنوب شرقي تركيا بالحذو حذوهم. أبلغت أنقرة أكثر من مرة بـ «خطها الأحمر»، ووضع العسكريون الأتراك مع المبعوث الأميركي السابق جون ألن خطةً لمنطقة آمنة بين شمال حلب وحدود تركيا، لكن أوباما رفض تنفيذها أكثر من مرة. أيضاً، تأخر الأميركيون في تنفيذ وعد بأن يعود الأكراد إلى شرق نهر الفرات بعد السيطرة على منبج وطرد «داعش»، بل إن الأميركيين كانوا يخططون لأن تقوم «قوات سورية الديموقراطية» الكردية – العربية بالذهاب للسيطرة على الرقة وطرد «داعش» من معقله.
وجد أردوغان نفسه في حضن بوتين بعد فراق إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. نزل إلى ألف باء المصالح التركية. لم لا يجري تكرار تجربة نهاية التسعينات؟ وقتذاك جرى تنسيق سوري – تركي – إيراني ضد أكراد شمال العراق. سورية تغيرت، كما العراق. التنسيق التركي صار مع روسيا وإيران بالنيابة عن البلدين العربييْن. وهنا ولدت المنطقة الثالثة.
ثالثاً، منطقة الأتراك
في ذكرى ٥٠٠ سنة على معركة مرج دابق التي دشنت «فتح» العثمانيين للعالم العربي من بلدة في ريف حلب، دخلت القوات التركية راعية لـ الجيش الحر» إلى جرابلس الحدودية. مقاتلو «الجيش الحر» تدربوا جنوب تركيا التي قدم جيشها لهم الدعم العسكري والاستخباراتي المباشر.
المحادثات الروسية – التركية، في ضوء مصالحة بوتين – أردوغان في ٩ آب (أغسطس)، تضمنت الاتفاق على المبادئ العامة لسورية: وحدة الأراضي السورية، الحل سياسي وليس عسكرياً، النظام علماني غير طائفي، والحفاظ على مؤسسات الدولة السورية.
إذاً، منع قيام كيان كردي يحقق أحد المبادئ المشتركة. لكن المقايضة المباشرة بين موسكو وأنقرة: منع ربط إقليمي الأكراد شرق سورية بإقليم شمالها في مقابل محاربة تركيا «داعش» والعمل على إغلاق الحدود. وستكون هذه منطقة نفوذ تركية ينتشر فيها «الجيش الحر» من جرابلس إلى ريف حلب، وينتقل إليها لاجئون عرب يقيمون سداً منيعاً أمام الحلم الكردي. كما قد تنتقل إليها الحكومة الموقتة المعارضة. وقد تغض تركيا الطرف عن طموحات روسية لـ «تحييد» حلب عن الصراع وتجميده وعودة تدرجية للنظام إليها.
الخطة لمنطقة أمنية مفروضة التي أرسلت إلى مكتب أوباما أكثر من مرة وعادت مرفوضةً، قُبلت في الكرملين بحيث تُنفذ طوعاً، كما هي الحال مع جنوب سورية. السؤال: لو حقق بوتين حلم أردوغان بتمرير خط أنابيب الغاز من تركيا وحوّل عقدة الطاقة إلى أوروبا، إلى أي حد سيتنازل الرئيس التركي في سورية والشرق الأوسط؟
رابعاً، منطقة الأردن وإسرائيل
تمتد بين ريفي درعا والقنيطرة وحدود الأردن وخط فك الاشتباك في الجولان المحتل، وينتشر فيها حوالى ٣٥ ألف مقاتل من»الجيش السوري الحر» ومئات العناصر من «داعش» و «جبهة النصرة». فصائل «الجيش الحر» محكومة بقرار «غرفة العمليات العسكرية» برئاسة وكالة الاستخبارات الأميركية (سي أي ايه)، مع أفضلية للقرار الأردني في إدارة العمليات العسكرية.
نجحت عمّان في وأد محاولات أسلمة المسلحين. أيضاً، نجحت مع حلفائها في إبعاد الميليشيات الإيرانية في ربيع العام الماضي لدى السيطرة على بصرى الشام ومعبر نصيب. استجابت عمان أكثر من مرة لضغوط بفتح معارك. عمان أرادت حماية مصالحها المباشرة. استفاد المسؤولون الأردنيون من الصداقة مع بوتين وعقدوا تفاهماً: وقف العمليات الهجومية لـ «الجيش الحر» على مناطق النظام في مقابل وقف القصف الروسي والسوري على جنوب سورية. حاولوا إقامة منطقة آمنة بالتراضي لقبول اللاجئين وإبعاد «داعش». أيضاً، حصل الإسرائيليون على ما يريدون: ضوء أخضر بقصف أي تجاوز للخط الأحمر، ومنع وجود قواعد للعمليات العسكرية ضدها من الجولان وربط جنوب سورية بجنوب لبنان.
غروزني السورية
خامساً، منطقة إدلب وريفا حلب وحماة وجزء من ريف اللاذقية
هي جيوب لفصائل معارضة يغلب عليها الطابع الإسلامي تجاور فصائل «الجيش الحر». وصفة بوتين لهذه المناطق هي إرسال المقاتلين الذين لا يريدون الاستسلام إليها وتفكيك البنى التحتية للمعارضة من مستشفيات ومجالس محلية وتنسيقيات وجمعيات أهلية وإرسال رسائل إلى داعميها الغربيين. في داريا ومعضمية الشام وباقي أطراف دمشق وحي الوعر في حمص بعد الزبداني ومضايا، إخلاء المدنيين والعسكريين والوجهة إلى إدلب.
من جهة، هذه الخطة، القائمة على نهج «التجويع أو التركيع»، توفر أريحية للقوات النظامية في مناطق ذات أولوية لها، ما يفسر القفزات الإقليمية على رقعة الشطرنج السورية. ومن جهة ثانية، تهيء الرأي العام العربي والدولي لقبول فكرة أن مناطق المعارضة تضم متطرفين فقط. وقتذاك، سيكون الكي آخر الدواء. وقاموس بوتين يتضمن وصفة غروزني.
سادساً، منطقة «داعش» والأكراد
وتمـــتد من ريف تدمر وسط البلاد إلى الرقـــة والحسكة ودير الزور. من يعرف تفكير أوباما يدرك أن لديه استراتيجية وحيدة هي محاربة «داعش». فهو يقول إن «داعـــش» تهديد مباشر للأمن القومي الأميركي، ومسؤول أن يلحق هزيمة بهذا التنظــــيم في سورية والعراق، لذلك وفـــر الدعم العسكري لقوى تحاربه في العـــراق وسورية. وضع هدفاً أن يطرد التنظيم من الموصل غرب العراق أو من الرقة شرق سورية قبل انتهــــاء ولايته. بوتين يهدد بين الفينة والأخـــرى هذا «الطموح الأوبامي» ويضـــغط عليه كي يحصل على شيء مقابل في سورية والمنطقة. يريد تراجعات إضافية في الموقف من النظـــام السوري وشرعيته. وعندما جـــرى إرسال «جيش سورية الجديد» إلى معبر التنف على حدود العراق بعد توفير غطاء جوي من راجمة صواريخ أميركية طويلة المدى، قوبل ذلك برد روسي قاس. في ١٢ حزيران (يونيو) و١٦ تموز (يوليو) الماضيين، أغار الطيران الروسي على معسكر لقوات خاصة أميركية وبريطانية مرافقة لـ «جيش سورية الجديد» قرب التنف. كاد الطيران الروسي يقتل أميركيين وبريطانيين، ما أغضب وزارتي الدفاع في البلدين، لكن أوباما بقي معتصماً بالصبر وبقي وزير الخارجية جون كيري متمسكاً بالخيار الديبلوماسي.
هذا في واشنطن وموسكو وأنقرة وطهران وجنيف. أما في سورية، فهناك ست مناطق نفوذ لأطراف غير سورية. أبلغ تعبير عن أن السوريين، نظاماً ومعارضة أو «نظامات» ومعارضات، فقدوا آخر ما تبقى لهم من قرار وطني، بما فيه هدنة وإغاثة حلب، ثاني أكبر مدينة في البلاد وعاصمتها الاقتصادية. وقف النار بين النظام والمعارضة ليس في أيديهم. قرار تسعير وقود النار ضد «داعش» في عواصم أخرى. الشيء الوحيد الذي تُرك لهم هو الخطاب والتمسك بالكلمات الكبيرة عن «الجمهورية العربية السورية» والعبارات البليغة عن أشياء لم تعد موجودة… ولن تكون إلى حين. وبقي لهم «أمراء الحرب» وتجار الحروب. أما اللاعبون الإقليميون والدوليون، فهم يغرزون أقدامهم في وحل هذه المناطق، إلى حين قدوم الرئيس الأميركي الجديد لاختبار ما إذا كان سيتعايش مع صراع يحتمل الديمومة أم يدفعه إلى منقلبات أخرى لها علاقة باعتبارات أكبر من سورية الصغيرة.
* صحافي سوري من أسرة «الحياة»
الحياة 08/09/2016