الفيدرالية والهوية السورية – طالب العلي

مقالات 0 admin

وضعت الثورة السورية منذ بداياتها مسألة الدولة (ممثلة بالنظام) ومدى جدارتها بإدارة شؤون الناس بعدالة وإنصاف، موضع تساؤل وشكّ كبيرين، وكان من الطبيعي يومها، وتماشياً مع ثورات شقيقة، أن يبرز شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” بوصفه نقطة اللا عودة في مسار العلاقة بين ذلك النظام وهذه الجموع الثائرة. كما برز في الساحات، إضافة إلى الشعار السابق، وبالتوازي معه، أحد الشعارات الأثيرة آنذاك ألا وهو شعار “الشعب السوري واحد”، وبمقدار ما كان هذا الشعار يسعى إلى مواجهة محاولات تطييف الحراك الثوري من قبل النظام من جهة، ويدعو إلى إشراك عموم السوريين في فعاليات الثورة من جهة أخرى، فإنه كان في الوقت نفسه يستبطن رغبة دفينةً، ربّما، في أن يأتي يوم ما يكون الشعب السوري فيه “واحداً” بالفعل.

أما الآن، وبعد خمس سنوات ونصف، وقد غدا الشعب السوري “شعوباً” والمجتمع السوري “مجتمعات”، فإن السؤال عن شكل ومقومات الدولة السورية الجديدة بات مشروعاً أكثر من ذي قبل، ويمكن تبّين أنّ ثمة عاملين موضوعيين يدفعان إلى ذلك على مستوى الجغرافيا الوطنية السورية:

الأول يتعلّق بالمناطق المحرّرة، ويتمثل بعدم تمكّن النظام من إثبات أيّة قدرة أو جدارة في استرجاع المناطق الخارجة عن سيطرته بشكل نهائي وناجز، رغم كلّ الدعم المقدم له من الحلفاء الإقليميين والميليشيات الطائفية الموالية، وقد أفسحت التغيّرات والمستجدات في موازين القوى العسكرية على الأرض، وموازين القوى السياسية الفاعلة، المجال لنشوء سلطات محلية ذات تابعية فوق وطنية كما في ريف إدلب والرقة، أو ذات مطامح متعلّقة بمشاريع إقليمية وأحلام قومية كما في حالة روج آفا.

أما العامل الثاني المتعلّق بالمناطق الموالية فيتجسّد بأنّ الأجهزة والمؤسسات الأمنية الرسمية، ولأسباب رهينة بنقص الموارد البشرية واللوجستية، باتت تدير شؤون الناس في المناطق الموالية المتبقية في حوزة نظام الأسد، عبر وكلاء محليين تمثلهم جماعات الشبّيحة “المنظّمة”، والتي أخذت تستقوي بالدعم الأمني المفتوح والممنوح لها في التحكّم بمصائر الناس وأسباب عيشهم، مما ساهم في خلق حالة متصاعدة من التملّمل والاستياء لم تتجاوز في أحسن الأحوال استنكارات خجولة للممارسات التشبيحية وانعدام الأمان بعد وقوع عدّة تفجيرات في أماكن متفرقة، أو شكاوى واعتراضات على الارتفاع المتصاعد في تكاليف المعيشة. كلّ ذلك، وإن كان يتمّ عبر تحميل السلطات التنفيذية المحلية أو المركزية أو حتى بعض الجهات الخارجية “المتآمرة” مسؤولية ما يجري، إلا أنّه والحال كذلك، تفتح الباب ولو بشكل موارب وخجول، على الشكّ بمصداقية النظام في إدارة “الأزمة”.

ومن هنا، فإنّ مفهوم الدولة أو شكل الكيان السوري الجديد سيغدو موضع تساؤل حقيقي وضروري في آن معاً، نتيجة تسارع الأحداث وتبدّل الأحوال على المستويين الجغرافي والديمغرافي، وانفتاح الوضع السوري بسائر تفاصيله على عديد الاحتمالات. لقد تسارع في السنين الأخيرة تواتر طرح الفيدرالية بصفتها أبرز الحلول السحرية للمسألة السورية بعد سقوط النظام، بل لعلّها الحلّ الوحيد برأي بعض الأوساط، من حيث أنّ الفيدرالية هي وحدها القادرة على حلّ جميع المشاكل السياسية والاجتماعية الناجمة عن التبدلات التي حصلت على واقع الجماعات الإثنية والدينية والطائفية والعلاقات بينها وحضورها في المكان، وذلك من خلال وضع الأطر التنظيمية والقانونية التي تكفل للجماعات الفرعية (الأقليات بخاصة) الحفاظ على وجودها وهويتها وتقرير نظام الإدارة الذي تدير به شؤونها ضمن إطار الدولة المركزية.

وانبثق هذا التساؤل في أذهان عموم السوريين، انطلاقاً من النظر إلى الدولة بوصفها المكان أو الفضاء اللازم لتحقيق الهوية وممارستها، وارتبط بالدرجة الأساسية بموضوع الهوية الوطنية، وبالنمط الإقصائي من الوطنية الذي مورس عبر سنوات الاستبداد، وبالهويات الطارئة المنبثقة عبر تلك السنين أو التي تبلورت على نحوٍ ما إبان سنوات الثورة.

إنّ التعدّد الثقافي في سوريا أمر قائم موضوعياً، وهذا التعدّد لا يستتبع بطبيعة الحال أن يكون ثمة اختلاف هوّياتي مطابق لذلك، إذ ليس من الضرورة أن يكون الاختلاف الهوّياتي حصيلة مباشرة للاختلاف الثقافي، وهذا من محاسن الصدف، إلا أنّ الاستبداد عمل على تكريس ذلك الاختلاف بوصفه اختلافاً جوهرانياً أبدياً، ففي الوقت الذي كان النظام يتغنّى بالهوية القومية العربية ساعياً إلى إدماج قسري لعموم السكان (حتى المتمايزين قومياً عن تلك الهوية) فيها، عبر ممارسات تشاركت فيها المؤسسات الأمنية والإعلامية والتربوية، فقد كان يسعى بالفعل إلى تكريس هويات قائمة على منطق تمييزي، ووضعها في حالة تصارع وتناقض ضمن جوّ من التعتيم والصمت وكمّ الأفواه، فبات الحديث ولو عرَضاً عن خصوصية ما تتعلّق بهوية طائفية أو إثنية أو دينية معينة يعرّض صاحبه للمساءلة الأمنية على أقل تقدير وصولاً إلى الانتهاك الجسدي.

لقد قامت الثورة السورية احتجاجاً على ظلم وجور أحاق بالبلاد والعباد على مدى خمسين سنة من الاستبداد السياسي، بصيغته البعثية أولاً، ومن ثم بصيغته الأسدية لاحقاً. هذه الأسدية كانت قد استحوذت على أربعين عاماً من تلك الخمسين، وأرست خلالها حكماً سلالياً عائلياً يستقوي بعصبيته الطائفية مستولياً على، ومستجرّاً معه، القسم الأعظم من طائفته، إضافة إلى تغذيته أوهاماً ومخاوف أقلوية في محاولة لاستجرار قدر ما يستطيع من باقي الأقليات، للاصطفاف إلى جانبه والضرب بسيفه. وبرغم ذلك، فقد وقع هذان الظلم والجور على الشريحة الأعظم من السوريين، وإنّ بدرجات متفاوتة كان يخفّف منها حجم الولاء السياسي والأمني للعائلة الحاكمة، إذ أن ممارسات النظام كانت قائمة على أسس تمييزية جليّة، وفي حالة تناقض وازدواجية على مستوى الممارسة.

وبهكذا ممارسات، استطاع النظام أن يحتكر حصرياً النسق الخاص بالتعريفات الهوياتية، ليس على مستوى التسمية والتوصيف وحسب، بل وعلى مستوى تحديد الموقع الذي تشغله كلّ هوّية أو جماعة في الميدان العام وفي تراتبية السلطة والهيمنة، فبات من الضروري بمكان، اصطناع هوية خاصة قائمة على مقدار الولاء الذي يمكن للمرء أو للجماعة تقديمه في سبيل الحصول على هبات وعطايا السلطان، ولعل في الشعار القائل “الأسد للأبد” سعياً مباشراً أو غير مباشر لتكريس هوية تنتمي للسلطة، الأبدية هنا مفهوم سكوني يقف على التضاد مع حركية المجتمع وإمكاناته، والهوية هذه، هوية يمتزج فيها السياسي مع الطائفي مع الإثني، يوّحدها الولاء، وتتموضع في مواجهة هويات أخرى سياسية أو طائفية أو إثنية تمّ النظر إليها دائماً بوصفها عدواً محتملاً وكامناً.

مامن شك في أن سقوط نظام الأسد ومؤسساته الأمنية يمثل الخطوة الأولى الضرورية لبناء العقد الاجتماعي الجديد، وكذلك لرسم ملامح الدولة السورية القادمة القادرة على استيعاب سائر الهويات الموجودة وتمكينها من أسباب الحياة، ومنح الجماعات المنضوية في إهابها، الحق في تقرير مصيرها وإدارة شؤونها والحفاظ على هويتها الثقافية فيما لو أبدت رغبتها في ذلك.

ثمّة خليط بالغ التعقيد من المظلوميات التاريخية، والمصالح، والمبادئ الإنسانية، والدواعي الإيديولوجية، يقف وراء مطالبة أيّة جماعة بحق تقرير مصيرها، وقد تعترض ذلك صعوبات بالغة من أهمها وجود تشابك كبير بين الجماعات الإثنية والدينية والطائفية في سائر المناطق، بما لا يتيح التعبير عن الحاجات والمطالب الأساسية لجماعة ما دون أن تتأثر مصالح الجماعات الأخرى بهذا الأمر، وهذا ما يفرض على سائر الجماعات تقديم التنازلات المتبادلة بناءً على وضع أولي يتم الاتفاق عليه من قبل الجميع.

لن يكون ثمة حل ممكن دون تأسيس هوية سورية جديدة، تعاقدية ومنفتحة، لا تغفل أيّ شكل من أشكال التنوع الإثني والمذهبي والديني، بل على العكس من ذلك، تقرّ بوجود هذا التنوع بسائر أشكاله، وتنظر إليه بمنظار الوطنية السمحة والمرنة، بمنظار المواطنة القائمة على أساس المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات.

وسواء كان نمط الدولة الفيدرالية أم نمط الدولة اللامركزية هو الحل المأمول حقاً لإدارة شؤون السوريين بعد سقوط الأسد، فإنّ المعيار الأساس ينبغي أن يتحدّد بدرجة أو سوية نظام إدارة الدولة المقترح في الاستجابة للحساسيات الثقافية والمناطقية وغيرها، ومن ثم قدرة نظام الإدارة هذا على ابتكار أشكال وآليات التطبيق الكفيلة بالتخفيف من تلك الحساسيات بوصفها نقاط توتر قابلة دوماً للتفعيل والتنشيط، والسعي من ثم إلى تعطيلها ما أمكن.

إنّ هذا كفيل بتخفيف أعباء الإدارة والحكم، وإزاحتها عن كاهل جهاز الدولة المركزي، ونقلها إلى إدارات المستوى الأدنى، وذلك بالتشارك مع مؤسسات المجتمع المدني المعنية، مما يساهم في تقصير المسافة بين مركز القرار وعموم الناس، ويضمن أن تتحقّق الاستجابة بأقصر الطرق وأفضلها، دونما تدخل من سلطة المركز، وكما قال توماس جيفرسون: “الدولة التي تحكم جيداً هي الدولة التي تحكم أقل”.

موقع “حكاية ما انحكت”  08/09/2016

 

 

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة