تغول الدولة واضمحلال المعرفة- حسام عيتاني
تشير العبارة الدارجة عن تطلب العرب التدخل الأميركي والغربي لمساعدتهم في صراعاتهم ضد إسرائيل وإيران، ثم تنديدهم بهذا التدخل عند حصوله، إلى مشكلة تتجاوز التخبط في إدارة الشأن السياسي اليومي لتصل إلى اضطراب في المعرفة وفي الرؤية إلى العالم وقوانينه وأحكامه.
قد يبدو تناول مسألة المعرفة بمعانيها الواسعة التي تشمل ما يزيد عن صوغ السياسات وتنفيذها، أقرب إلى الترف والتنطح في وقت تباد فيه شعوب وتدمر مدن وتنهار مجتمعات ودول بعد انكفاء الثورات العربية وانتكاساتها. بيد أن المصائر القاتمة التي وصلت إليها دولنا ومجتمعاتنا هي بالضبط الدوافع اللازمة للبحث عن أسباب هذه الإخفاقات ليس في اللحاق بالعصر على ما كان يرغب نهضويو القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، بل حتى بوقف التدهور والنكوص إلى الهمجية.
تظهر مشكلة لها جانب معرفي مؤكد، ما ان يجري تناول القضايا التي تشغل العالم العربي منذ أكثر من قرن. إذا أخذنا القضية الفلسطينية كمثال، يظهر على الفور البون الشاسع بين ما نعرفه عن أحوال الفلسطينيين والعرب وعجزهم عن خوض المواجهة العسكرية والاقتصادية وحتى الديبلوماسية مع عدوهم القديم وبين مواقفهم المطالبة بحقوق شرعية لا لبس فيها لكنها أصبحت، بسبب العجز العربي والدعم العالمي لإسرائيل، خارج متناول العرب والفلسطينيين. التجربة التي قامت بها منظمة التحرير الفلسطينية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بإبرام سلام يشكل مقدمة لاستعادة الأنفاس وتعديل موازين القوى، انتهت إلى الفاجعة الحالية التي قسمت الأراضي المحتلة إلى قطاع محاصر في غزة وضفة غربية لا تملك من السيادة إلا أوهامها.
لا يقصد هذا الكلام العودة إلى النغمة الحزينة عن أولوية ملء صندوق العقل قبل الإدلاء بأصوات الناخبين في صندوق الاقتراع والتي تحولت إلى ثنائية فارغة على جاري عادة الثنائيات العربية أو هل يجوز ان تخرج التظاهرات من المساجد أو أن ذلك يسلم الثورات إلى المتطرفين…إلخ، بل يهدف إلى القول ان إهمال الجانب المعرفي في التعامل مع الواقع العربي قد أدى الى غياب القدرة على التحكم به.
قبل عقود كشف ميشال فوكو مقولة بارعة تشرح علاقة السلطة بالمعرفة. وكيف تعتمد السلطة عند مراكمة أدواتها على بناء معرفة أقرب ما تكون إلى الكمال بالمجتمع الذي تسيطر عليه وكيفية تطوير الأدوات اللازمة للهيمنة السياسية والاجتماعية والثقافية بالاتكال على المعرفة تلك. في أحوالنا العربية، نشهد الآن انهياراً متوازياً للسلطات وللمعرفة. السلطات التي بلغت حد التغول في العقود السابقة على الثورات العربية اعتمدت على المعرفة التقليدية القائمة على الترهيب بالقوة وعلى «تضخيم الدولة» (وفق عبارة نزيه الأيوبي). لكن الإفراط في الترهيب والتضخيم قد انقلب إلى ضده على ما تقول أحوال دول عربية روجت كثيراً لاستقرارها كعملة نادرة في محيط مضطرب.
ما يتخذ صفة الإلحاح هذه الأيام ربما تكون العودة إلى الأسئلة التأسيسية لنظرية المعرفة: ماذا نعرف عن أنفسنا وعن العالم المحيط بنا؟ لماذا يجب أن نعرف؟ كيف نعرف؟ ما الذي لا نستطيع معرفته ولماذا؟ السمة البسيطة للأسئلة أعلاه خادعة جداً. ذلك أن الإجابة عن كل منها يتطلب إعادة نظر عميقة بمنظومات الثقافة والسياسة والاجتماع السائدة عندنا منذ عقود طويلة.
وبعد انهيار الدولة العربية المتضخمة والمتغولة، وانكشاف شح المعرفة التي كانت الدولة هذه تقوم عليها يتعين النظر مجدداً في أسئلة تأسيسية، في المعرفة وغيرها.
19ايلول 2016