أبي سوريّ وأمّي لبنانيّة-الأب د. جورج مسّوح
وُلدتُ في سدّ البوشريّة من أعمال لبنان (وتحديدًا جبل لبنان) من أب سوريّ وأمّ لبنانيّة. أبي، إبراهيم مسّوح، أتى إلى لبنان العام 1943، وكان عمره عشرين عامًا. وُلد في قرية اسمها حبنمرة، وهي إحدى قرى منطقة “وادي النصارى” الذي أسماه عبد الناصر “وادي النضارة” تفاديًا لإيحاءات “طائفيّة”. أمّي، جورجيت شبيب، من قريّة عكّاريّة اسمها “شدره”. أبي سوريّ وأمّي لبنانيّة، يفصل بين قريتيهما نهر اسمه – من دون تندّر – “النهر الكبير الجنوبيّ”، يصبح ساقيةً في الصيف، وحوالى عشرين كيلومترًا تقطعها السيّارة في ثلاثين دقيقة. أبي سوريّ وأمّي لبنانيّة تنتمي قريتاهما إلى أبرشيّة أرثوذكسيّة واحدة هي أبرشيّة عكّار. ومع هذا، شاء الانتداب أن يجعل أبي سوريًّا وأمّي لبنانيّة.
عاش أبي المتزوّج من لبنانيّة زهاء خمس وخمسين سنة في لبنان، وتوفي عام 1999 مجنّسًا لبنانيًّا، بفضل مرسوم التجنيس الشهير عام 1994، وليس لأنّه يستحقّ ذلك منذ خمسين عامًا! لم يتجنّس أبي لأنّه يستحقّ الجنسيّة اللبنانيّة، بل تجنّس بسبب حسابات داخليّة – وخارجيّة – ضيّقة. عندما صدر المرسوم، قال أبي قولته الشهيرة: “تبًّا للزمن الذي أصبح فيه الحقّ منّة”.
في كلّيّة العلوم – الجامعة اللبنانيّة، بين عامَي 1981 و1986، وعند كلّ تعرّف بأحد الزملاء الطلاّب الجدد، كنت أقدّم نفسي قائلاً إنّي سوريّ، لكنّي كنت أضيف مباشرة أنّ أمي لبنانيّة لكي أخفّف وطء كلمة “سوريّ” عن أذنيه. كانت ردّة الفعل دائمًا “بلا مزح” أو “مش مبين عليك”، وكأنّ السوريّ أتٍ من كوكب آخر، وكأنّ جمجمة اللبنانيّ تختلف عن الجمجمة السوريّة. وقصّة الجمجمة قصّة. فالبطل الصنديد، آكل الصبّير الشهير، الذي سقط عام 1996 في انتخابات المتن أعرب عن امتعاضه من المجنّسين وقال ما معناه: “المتنيّ الأصيل انتخبنا والمتنيّ الدخيل انتخب غيرنا”، ونسي هذا المتنيّ أنّ الأغلبيّة الساحقة من المتنيّين “الأصيلين”، بحسب تقسيمه العالم بين فسطاط المتنيّين وفسطاط غير المتنيّين، ذوي الجمجمة المتنيّة قد انتخبوا غريمه.
بالحقيقة لقد أفادتني جنسيّتي السوريّة خلال الحرب بين اللبنانيّين، بحيث إنّني كنت أعبر كلّ الحواجز من دون مشكلة، فعند البعض كان امتيازي أنّني مسيحيّ وعند البعض الآخر أنّني سوريّ. ولا يخلو الأمر، أحيانًا، من بعض المضايقات، فلن أنسى ذلك المرابط على حاجز البربارة الذي سألني بعد أن قرأ بطاقة هويّتي السوريّة إذا كنت مسيحيًّا، فأجبته باسمًا بأنّ اسمي “جورج” يدلّ على هويّتي الدينيّة، فلم يعجبه جوابي فأردف، ليريني مدى ذكائه الاستخباراتيّ، قائلاً: “ومَن يبرهن لي أنّ الدولة السوريّة لم تعطِك هويّة مزوّرة؟”.
كنتُ أتساءل دائمًا، قبل أن أدخل جنّة الجنسيّة اللبنانيّة، لماذا يسعى الكثير من اللبنانيّين إلى الحصول على هويّة غير هويّتهم اللبنانيّة كي يفخروا بانتمائهم الأوروبيّ أو الأميركيّ أو الأوستراليّ الجديد. وهكذا، يستطيعون الطيران حيث يطيب لهم السفر فلا يتضايقون، بفضل جنسيّتهم الثانية، من مدقّقي الجوازات في المطارات. لماذا يحقّ للبنانيّ البحث عن جنسيّة أخرى. أمّا أنا غير اللبنانيّ، المولود في لبنان من سيّدة لبنانيّة، فلا يحقّ لي أن أحصل على الجنسيّة اللبنانيّة؟ فلبنان “الرسالة الحضاريّة” القائم على تعدّد القبائل – أقصد الطوائف – لا يستطيع تحمّل الخلل بين الطوائف المتحابّة – أقصد المتقاتلة -، فلا يجوز إعطاء المولود في البلد الجنسيّة حتّى لا يختلّ التوازن بين العاشقين بعضهم بعضًا حتّى الموت.
بعضهم يطالبون بالجنسيّة لخوسّيه وخورخي وخوان المولودين في الأرجنتين والبرازيل واليونايتد ستايتس وأوستراليا… هؤلاء الذين لم تطأ أقدامهم أرض لبنان، أمّا المولود في بيروت والذي أحبّ بيروت ولم يترك بيروت في أصعب أيّام محنتها ولم يحمل السلاح في وجه أيّ لبنانيّ، فهذا لا يستحقّ أن يكون لبنانيًّا. ويقولون، من دون أن يخجلوا، إنّهم متحضّرون، بينما هم قبائل وعشائر. يقولون إنّهم ينتمون إلى بلد الإشعاع، لكنّ الرابطة الأولى بينهم ليست الفكر والقضية، بل اللحم والدم – ركنا القبيلة – اللذان يتحوّلان إلى تراب. وهل الوطن تراب أم إنسان؟
أنا، المولود في لبنان من أب سوريّ وأمّ لبنانيّة، لبنانيّ أكثر منك يا مَن ترفض منح أولاد المرأة اللبنانيّة الجنسيّة.
أنا، المولود من أبّ وأمّ مسيحيّيين أرثوذكسيّين، مسيحيّ أكثر منك يا مَن، برفضه منح الجنسية لأبناء المرأة اللبنانيّة، يصلب المسيح ثانيةً على صليب العنصريّة والكراهية.
ليبنانون فايلز 21 ايلول 2016