لنجرّب الاحتلال! – عمر قدور
لم يكد مجلس الدوما الروسي يصوت بالموافقة على وجود روسي عسكري دائم في سوريا حتى أعلن نائب وزير الدفاع العزم على تحويل المنشأة البحرية الروسية في طرطوس إلى قاعدة دائمة. تصويت مجلس الدوما كان على اتفاقية غير محدودة المدة وقع عليها النظام السوري بالتزامن مع التدخل الروسي العسكري، لكن لهذا التصويت، في هذا التوقيت، دلالاته التي تذهب تحديداً إلى ترسيخ وجود روسي مستدام في سوريا، تحت ستار من “الشرعية” التي تمنحها الاتفاقية المذكورة.
هي الشرعية ذاتها التي كان يتحدث بموجبها مندوب النظام في مجلس الأمن، ويصل به الاستهتار لينسب لنفسه العضوية الدائمة، رداً على انسحاب أعضاء دائمين من الجلسة. لكن ما هو مطلوب من المعارضة يتعدى القول بعدم شرعية النظام، وتالياً عدم شرعية الاتفاقيات التي عقدها منذ اندلاع الثورة. فمثل هذا القول لا قيمة له طالما لم يُسند بجهد دؤوب لتجريد النظام من شرعيته القانونية أمام المجتمع الدولي، واستخدام حتى أقوال مندوبي الدول الغربية دائمة العضوية كحجج من أجل إثبات عدم أهليته وعدم تمثيله السوريين. ففي جلستي مجلس الأمن الأخيرتين كانت هناك اتهامات صريحة باستخدام الأسلحة الكيماوية، وحتى اتهام واضح بالاستهداف المتعمد لقافلة مساعدات أممية، فضلاً عن اتهام النظام بتغذية الإرهاب، وجميعها تصب في الطعن بأهلية النظام من حيث الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، بوصف الأخير شرطاً أساسياً من شروط عضوية المنظمة الدولية.
بالطبع هناك ملف ضخم من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية يمكن استثماره لتبيان واقع حرب النظام على السوريين، وعدم أهلية تمثيله لهم. ولأن الطعن بأهلية المعارضة سهل أيضاً، جراء عدم سيطرتها المستدامة والآمنة على الأراضي، وتالياً عدم تحقيقها شروط ملء المقعد، لذا ينبغي أن تتوجه المعركة إلى تعليق عضوية سوريا في الأمم المتحدة ووكالاتها. وبحكم الوجود العسكري الروسي ومساهمته الحثيثة في الحرب على السوريين لا بأس في العمل على تحميل قوات الاحتلال مسؤولياتها القانونية، من خلال العمل على توصيفها كقوة احتلال بموجب القانون الدولي.
لا شك أن العضوية الروسية الدائمة في مجلس الأمن لن تجعل هذه المعركة سهلة على الإطلاق، لكن يمكن العمل بإصرار من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولو لم تمتلك قراراتها صفة الإلزام. المسألة تتعلق هنا بتجريد اتفاقية الاحتلال الروسي من الشرعية التي تمتلكها طالما بقي النظام يحظى بها، وعليها فإن كافة ممارسات الاحتلال الروسي محمية بموجب الاتفاقية التي تمنح كافة الجنود الروس حصانة من الملاحقة القانونية. المقارنة، ولو كانت نظرية بدءاً، هي بين قوة حليفة للنظام تحظى بحماية تامة بموجب قوانينه وبين قوة احتلال مسؤولة بموجب القانون الدولي، ويترتب عليها الالتزام المستقل بمسؤولياتها كقوة احتلال، وأيضاً بمسؤولياتها بموجب اتفاقيات جنيف المتعلقة بحالة الحرب.
مثل هذا السعي لن يخلي مسؤولية النظام عن جرائمه، فأن يصبح في موقع العمالة لمحتل لا يلغي مفاعيل الجرائم التي ارتكبها بقرار مستقل سابقاً، أو التي يرتكبها بالتنسيق مع قوات الاحتلال. ومع أن العديد من الحروب الأهلية قد شهد تدخلات أجنبية إلا أن الاحتلال الروسي الحالي لا سوابق له إلا في الحالات التي جرى توصيفها بالاحتلال، سواء على صعيد اللغة المتداولة دولياً أو على الصعيد الحقوقي. هكذا، على سبيل المثال، كان يوصف الوجود السوفيتي في أفغانستان، وهذا ما ارتضته الحكومة الأميركية ذاتها إثر غزوها العراق، على رغم أن نظام صدام حسين كان يشغل مقعد بلاده في منظمة الأمم المتحدة حتى سقوطه.
إن واحداً من المشاكل التي أحاطت بالقضية السورية يكمن في ذلك التهرب من إخضاعها لأي أساس قانوني، وما يترتب على هذا من التزامات. على سبيل المثال، منذ الأشهر الأولى للثورة بدأت أوساط قرار غربية بوصف ما يحدث بالحرب الأهلية، لكن لم يترتب على هذا الكلام السياسي اتخاذ خطوات جادة تجبر النظام على الالتزام بالبروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف، تحديداً المتعلقة بحالات الحروب الأهلية. بدورها تهربت المعارضة من هذا التوصيف وواظبت على إنكاره، فلم تسعَ إلى إحراج أصحابه بحثّهم على إقراره مع تبعاته في المنظمات الدولية، مع أن مثل هذه الخطوة تنال على الأقل من شرعية تمثيل النظام لمؤيدي الثورة.
الآن، لا تبشر الظروف كما يرغب البعض بحرب عالمية، لكنها أيضاً قد تكون مواتية لعمل سياسي مختلف عما قبل، عمل يطوي صفحة وعود الحل السياسي البائس، فضلاً عن انتفاء معنى الحل بوجود قوة احتلال شبه رسمية وقوة أخرى عبر ميليشياتها العديدة. العمل من أجل اعتراف المجتمع الدولي بوقوع سوريا تحت الاحتلال يغير من طبيعة حقوق السوريين نفسها، لأنها ستكون محمية وفق القانون الدولي بحق تقرير المصير، وبشرعية استخدام الوسائل السلمية والعسكرية لتحقيقه.
لقد دفع السوريون طويلاً ثمن خلط الأوراق من قبل العالم، فلا هو تعاطى معها كثورة شعب محقة تُقابل بوحشية منقطعة النظير، بل جرى خلطها عمداً مع قضية الإرهاب لتحويل الأنظار عن مشروعيتها. أيضاً، كان الحديث عن حرب أهلية سورية مجرد ذريعة لإثارة موضوع “حماية الأقليات”، فلم تنعقد النية أبداً لإيقاف “الحرب الأهلية” وحماية جميع أطرافها، أو تهديد مرتكبي جرائمها بمحاكمة دولية. اليوم يسعى الروسي أيضاً إلى خلط الأوراق، بتكريس احتلاله تحت زعم اتفاقية معقودة مع “حكومة شرعية”، أي يريده احتلالاً بلا أي ثمن وبالمقارنة تبدو سلطات الانتداب القديمة معتبرة جداً إذ كانت توثق استعمارها في عصبة الأمم. ضمن هذا الخلط المركب والمتعمد لن يعلن أحد عن وقوع سوريا تحت الاحتلال، ولا ضير في أن تبادر المعارضة إلى إعلان ذلك ومحاولة تثبيته كواقع قانوني حتى رحيل كافة القوات الأجنبية، أما رحيل المافيا العميلة فهو في جميع الحالات المشابهة مُتضمَن في رحيل الأولى لا العكس.
المدن: 11/10/2016