سميرة الخليل: الكتاب والصديقة والقضية – بكر صدقي
«يوميات الحصار في دوما 2013» هو عنوان كتاب سميرة الخليل الذي صدر، مؤخراً، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، مع تقديم ياسين الحاج صالح الذي قام بتحرير محتويات الكتاب. وهي عبارة عن أوراق كتبتها سميرة المختطفة من قبل «جيش الإسلام» الذي يسيطر على الغوطة الشرقية، منذ سنوات، والمغيَّبة قسرياً، مع رفاقها الثلاثة، في سجونه السرية.
في غرفة صغيرة في حي برزة الدمشقي تعرفت إلى سميرة للمرة الأولى. زرتها برفقة صديقة مشتركة، وخرجت بهذا الانطباع الجميل: امرأة ودودة جداً، هادئة جداً، متصالحة مع الحياة بطريقة إيجابية، تقوم بواجبات استقبال الضيوف بحب، وكأنها تجد سعادتها في ذلك. سيترسخ هذا الانطباع، في السنوات التالية، كلما قمت بزيارة ياسين وسميرة في دمشق.
بهذه الروح الإيجابية كتبت سميرة، في «يوميات الحصار»، عن أهل دوما وأطفال دوما ونسائها ورجالها، عن معاناتهم اليومية، عن الجوع والقصف اليومي وفقدان الاتصالات بالعالم الخارجي، وإن كانت تلك الروح الإيجابية ممزوجة بكثير من المرارة، ولحظات ضعف بشري لا مفر منها. كحالها حين نراها تصرخ بقهر في وجه عالم بلا أخلاق، ترك «أبو الكيماوي» بعدما حدد مصير الكيماوي: «في جرائم حرب يا أولاد الستين ألف كلب»…
قصة خطف سميرة، مع رفاقها رزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي، وتغييبهم القسري منذ ثلاث سنوات تقريباً، هي قصة اغتيال الثورة والغدر بها من قبل فصائل مسلحة زعمت قتال النظام الساقط، في حين لم يتجاوز طموحها أن تحل محله وتكون مثله في حكم السكان وإذلالهم، حيثما تمكنت من ذلك. هذا ينطبق على الفصائل ذات العقيدة السلفية، والسلفية الجهادية، بأكثر مما ينطبق على فصائل بلا عقيدة يقودها أمراء حرب. ذلك أن عقيدة شمولية خاضعة، في تأويلاتها، لأهواء الممسكين بالسلاح ومصالحهم ونزوعهم التسلطي، من شأنها أن تقدم تسويغات لمحتل داخلي جديد، كان نظام البراميل قد فقدها تماماً، بعدما استبدل بالشعار الفاشي الوضيع «الأسد أو نحرق البلد» شوربته الإيديولوجية الفاسدة (القومية ـ الإشتراكية ـ الليبرالية ـ الإسلامية ـ العلمانية..).
فالأسرى الأربعة هم من المعارضين المعروفين لنظام الأسد، مقابل خاطفيهم الذين أطلق النظام سراح بعض قادتهم، بعد شهرين من بداية الثورة السلمية عليه، ليقوموا بما قاموا به من اغتيالها. إضافة إلى خسة فعل الاختطاف المتعارضة مع شهامة أهل دوما المعروفة، دوما التي قدمت أوائل شهداء الثورة السلمية. إن من يختطف معارضين للنظام، عزّلا وبلا أي سند، هم أناس أخساء بلا ضمير ولا رجولة، فضلاً عن خدمتهم المجانية (أم أنها غير مجانية؟) لنظام خسيس، مثلهم، قتل من أهالي دوما الشجعان من قتل، ولم يوفر سلاحاً يملكه في تدمير المدينة وقتل سكانها بعد حصار وتجويع.
سميرة ورزان ووائل وناظم معارضون نشطوا في فعاليات الثورة، منذ أيامها الأولى، وهربوا من أجهزته المجرمة إلى حيث افترضوا الأمان و»إغاثة الملهوف». ليأتي ملثمون حقيرون ويغيّبوا أولئك النشطاء الذين كرسوا وقتهم لتوثيق انتهاكات النظام (كانت رزان ترأس مركز توثيق الانتهاكات). هل يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء للاستنتاج بأن خاطفي النشطاء الأربعة أرادوا منع توثيق انتهاكات شريكهم المجرم؟ نعم، أنا أتهم الجهة الخاطفة، جيش الإسلام حتى يثبت غير ذلك، بالعمل على مساعدة نظام بشار الكيماوي على طمس حقائق انتهاكاته التي توَّجها بضرب الغوطة بالكيماوي.
إضافة إلى الأوراق المكتوبة بخط اليد، يتضمن الكتاب بوستات لسميرة نشرتها، في الفترة ذاتها، على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. أعني فترة وجودها في الغوطة من منتصف أيار 2013 إلى 9 كانون الأول من العام نفسه، يوم تم اختطاف النشطاء الأربعة.
«سميرة مضادة للتجريد» يقول ياسين الحاج صالح في وصف أسلوبها في الكتابة. وهو وصف دقيق كما يمكن لقارئ كتاب سميرة أن يرى. فهي تتعامل مع موضوعات محسوسة بمشاعر عارية، بلا تزويق لا يحتاجه موضوعها أصلاً. فموضوعها الثابت هو رصد معاناة الناس في الحصار، وقصص المقتلة اليومية من حولها. ولن يفاجئنا، والحال هذه، وسميرة هي من هي، أن نراها تقارن، المرة تلو الأخرى، بين سنوات أمضتها في الاعتقال في عهد الدكتاتور البائد حافظ الأسد، والحصار الذي عاشته بمعظمه وحدها في مدينة دوما.
هذه نقطة جديرة بالتأمل. لقد عاشت فترة قصيرة مع ياسين (زوجها) في دوما، قبل سفره باتجاه الرقة. الأوراق مكتوبة كلها بعد سفر ياسين. نادراً ما تذكر رزان التي شاركتها السكن. يبدو للقارئ الذي لا يعرف شيئاً عن ظروف وجودها في دوما، كما لو أنها عاشت هناك وحيدة.
بين العامين 1987 ـ 1991 أمضت سميرة سنوات أربع في سجن دوما للنساء. ومرةً، أثناء أشهر الحصار، أرادت زيارة سجنها الذي بات في عهدة جيش الإسلام. سمح لها الحراس برؤية محدودة، فلم تر المهجع الذي سجنت فيه، قبل ربع قرن، بوصفها معتقلة سياسية شيوعية.
ترى هل أعادها الجناة الذين خطفوها، إلى السجن نفسه لتكتمل سخرية الأقدار: سجان إسلامي حل محل سجان أسدي؟
«يا أحمد ويا فراس، بعرف أنو رح تكونوا بخير. أخوكن ياسين ضل بخير رغم 16 سنة بسجن الاستبداد الفاجر. بعرف رح تكونوا بخير بوجه الاستبداد الملثم. ناطرينكم يا حبايب» هذا ما كتبته سميرة مخاطبةً نسيبيها المختطفين لدى داعش.
سأقتبس منها وأكرر: يا سميرة ويا رزان، يا وائل ويا ناظم، أعرف أنكم ستكونون بخير. بانتظاركم أيها الأحبة.
القدس العربي 13-10-2016